امتلك مولانا الشنقيطي كل المؤهلات ليكون الشعر عنوانه الرئيس، وتعريفه الأبرز، فقد رضع حب اللغة ودواوين القريض وأمهات الأدب وهو طفل يافع؛ وحباه الله عاطفة صادقة وخيالا حرا منطلقا، فتفتقت قريحته شعرا في سن العاشرة، وكان للشعر والأدب في بداية مشوار تحصيله العلمي والأكاديمي نصيب وافر سمح له بالسياحة في أفانين الأدب الإنساني من "الأشوار" والأهازيج التي تلقفها صادقة طرية من بوادي النعمة وبطاح الجريف، إلى الشعر العربي بكل مدارسه وحقبه، ثم الشعر الروسي في مرحلة الدرس الجامعي، ولاحقا الشعر الفرنسي والهندي والتركي.
بيد أن دروب الحياة والشغف المعرفي، وتنوع المواهب حملت الشنقيطي لآفاق العالمية في مجالات أخرى بها عرف واشتهر الآن حيث كتبه في مجالات الفقه السياسي، مترجمة بأغلب اللغات الإسلامية والعالمية، وهو اليوم في صدارة مفكري الأمة المبرزين، وحداتها المحرضين على التحرر والتجديد والتنوير.
اليوم، وقد صدر ديوان "جراح الروح" ومقدمته ذات النسب مع مقدمة ابن خلدون التي خصصها الشنقيطي لرحلته مع الشعر، نكتشف أن الشعر ليس وسيلة إمتاع ومؤانسة فقط، بل هو أيضا حافز للمعالي، ومحصن من المخاطر، ومعين على قراءة الخرائط الجيو- استراتيجية، لقد أحسست وأنا "تلميدي ركبة" لمولانا الشنقيطي في الكثير من خياراته واجتهاداته أن الشعر ليس فنا مساعدا فقط في التجربة الشنقيطية التي أراهن أنها سجلت في تاريخ الأمة المعاصر تجربة متفردة في الجمع بين الإيمان بقيم الحرية والعدل والمنافحة عنها في أصول التشريع وقواعده، وفي ميادين الفعل السياسي والحضاري لأمة تعيش تحولات كبرى يعيش معها الشنقيطي في جراح روحه وتغريداته، وخلاصاته العلمية الصادعة بالحق في أوجه سلاطين الجور والرتابة والتقليد والميوعة على حد سواء… أستطيع أن ادعي الآن وقد أنهيت قراءة جراح الروح ومقدمته أن وراء قصة نجاح الشنقيطي في الفكر والعلم والتنوير كامن شعري وثاب.
لا أعرف إن كان الشاعر المفكر أراد ذلك أم لا، ولكن "مقدمة" ديوان جراح الروح وضعت بين يدي الباحثين مفاتيح السيرة الذاتية والفكرية للشنقيطي، فمعها ومن خلالها نسجل لحظة اشتباكه الأولى مع المحتل الفرنسي، وحبه الأول للمقاومين وهو يتغني بأشوار تمجيد ولد عبدوك في ضواحي إحدى قلاع المقاومة بمدينة النعمة، ومعه نواكب تحولاته من المحافظة إلى التجديد ولو من بوابة الهيام مع المدرسة الرومانسية، كما نشهد انفتاحه على المعرفة الإنسانية وتجاوزه للحواجز الوهمية بعقل نقدي حصيف يعرف ما يحتاج فيستفيد ويضيف.
ومع "المقدمة" نسافر مع الشنقيطي إلى صنعاء التي دخلها مترنما بالمقامة الصنعانية وخرج منها وقد أخذ العدة الكافية للإقامة عشرية قاوم فيها محاولات التجنيد والتحييد بعقله وفكره وبشعره أيضا، ومنها خرج منتصرا مستهلا عشرية جديدة نكتشف فيها مع "المقدمة" شذرات من تنزل أفكار الحرية وقيمها ولحظات الإبداع والإشراق التي يفتك المؤلف مرة لينشد قصيدة لمحمد اقبال في مسجد قرطبة ويعود في رحلة شاقة وحينا عندما يذهب إلى بلدة سروج موطن أبرز أبطال مقامات الحريري فيترنم بالمقامات هناك قبيل صدور الديوان بأيام معدودة.
حين شرفني الشنقيطي بنسخة من الديوان / السيرة الشعرية قبيل طرحه للجمهور في معرض اسطنبول عطلة هذا الأسبوع وجدتني أكتب له وقد سألني بأدب إن كنت اطلعت على الديوان تعليقا عفو الخاطر:
بلسمتني جراحه، هيجت لي.. كامن الوجد حركت أشجاني
أخذتني في رحلة من هيام.. مع خل كم قادني كم حداني
لدروب الإيمان، سوح الأماني.. لظلال القرآن، شط الأمان
نصرة الحق والتصدي جهارا.. ونهارا لزمرة الطغيان
ليس هذي جراح روحك كلا.. هذه شعلة من الإيمان
قبس من سيناء روح من القدس.. أهازيج من شذى الأزمان
سطرت من مداد رحلة حر.. ينثر النور في ربى الأوطان
يحمل الروح حرة ترفض الضيم.. وتشدو كرامة الانسان