ذكرت في الحلقة الماضية أني سأكتب هذا المقال في قضية الركنيين المتبقيين من أركان الصوفية، وأعيد ذكرها لتترسخ في ذهن القارئ وهي: الشيخ ولو كان شابا – وأورادا – وإنسانا تلميذا.
كما ذكرت أني سوف أتكلم على اصطلاح الشريعة والحقيقة والظاهرة والباطنة، ولكن قبل ذلك كله سوف أبدأ بالآية التالية:
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} ثم أقول إن الشريعة تقال للطريق ولذا يقول الله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا}، فالشريعة التي عليها الرسول صلى الله عليه وسلم هي المسماة بالطريق المستقيم والمأمور باللجوء إلى الله كل 24 ساعة للهداية إليها.
وهذه الطريق هي الحقيقة نفسها فالله يقول: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي} ويقول في آية أخرى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} وهنا نحسم القول بترادف كلمة الشريعة والحقيقة في الإسلام.
أما كلمة الظاهر والباطن فيقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} ولا معنى للتبيين إلا الإظهار.
أما الباطن فهو الذي كان الكتابيون والمنافقون يلجأون إليه بعقائدهم الفاسدة فيطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على بواطنهم، يقول تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} ويقول تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} وكل المقول إذا لم يكن ظاهرا فلا يحمل دليلا حقيقة يقول تعالى: {ألمر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}.
كما أن كل رسول يقول لأمته معنى هذه الآية: {فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} واستجابة من الرسول صلي الله عليه وسلم لأوامر الله في قوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} فقد أشهد الكم الهائل من الصحابة على فعله لهذا التبليغ كما تقدم، ولذا قال في حجة الوداع بعد جوابهم له بكمال الإبلاغ وتأدية الأمانة: اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
فلو كانت هناك خاصة للخاصة لكانت وحيا من الله والله يقول: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} والضمير هنا لكل الأمة، وهنا أيضا نحسم قضية الشريعة الظاهرة والباطنة فإن السر والباطن من خصوصية الله وحده: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} و (وإنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها إلى آخر الحديث).
أما إذا كانت الخصوصية نتيجة لنوع من العبادة (الأوراد) فعندما نصل إلى عبادة التلميذ المريد بأوراده الخاصة فسوف نذكر بإذن الله نماذجا من العبادة في القرآن جزاؤها من الله لا تعلمه أي نفس وذلك بكلام الله مباشرة من غير دخول عمل أي إنسان بورد أو غيره.
لكن قبل ذلك نعود لأركان الصوفية الثلاثة: الشيخ، الورد، التلميذ لأن الكلام في ركن الشيخ لا يمكن أن ينتهي لأنه الإنسان الذي يظن أنه جعله الله وكيلا على الإنسانية الأخرى لمراقبة عبادتها أو مراقبة أمراض قلوبها إلى آخره.
أعود إلى ركنه لأوضح أنه باستقراء القرآن كله والأحاديث الصحيحة فسوف لا نجد وكيلا من الإنسان على البشرية كما قال تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم: {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا}.
ولكن أريد أن أبين أن هذه الواسطة من الإنسان وهذه الأوراد وهذا النوع من العبادة المتميز بعضه يكون بإعلان الحب وشغف القلوب تارة نقول أنه بالله جل جلاله وتارة بالنبي صلي الله عليه وسلم وتارة بالشيخ – الإنسان – نفسه كل ذلك لم يكن وليد اليوم بل إنه اليوم كثرت الملاحظة عليه بإتاحة فرصة لمناقشته، فمن الصدفة أو الأصالة في هذه الملاحظات على الصوفية والمتصوفين أنها بدءا من وجودها على الأرض فهي تحمل هذه الملاحظة وأهلها هم من يسمون أصحاب الملاحظة بالمنكرين: هكذا تلقائيا فتلازم وجودها مع الانكار عليها مثل تلازم وجود الإيجابي والسلبي فأين ما وجدت صوفية وجد الانكار، ولذا فإن من عبد الله طبقا للقرآن والسنة من غير زيادة ولا نقصان فلا إنكار عليه لتمسكه بالأصل.
فنواة الصوفية الأولى بدأت تقريبا سنة 110 هجرية بالحسن البصري تابعي ثم جاء الجنيد الذي سميت عليه العبادة بعد نقلها من كلمة العبادة المتكررة في القرآن إلى كلمة "السلوك"، وكل سالك لا بد له من طريق، ولأجل ذلك تعددت الطرق وهي السبل والله يقول: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} أي الموحد لكم جميعا ولذا يقول الله تعالى أيضا: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلي الله}.
فأولا كانت الصوفية أشخاصا وأخيرا أصبحت طرقا متعددة، فمن الأفراد الأوائل :
1. بشري الحارث 228 هجرية
2. طيفور من خراسان 800 هجرية
وكذلك من القدماء رابعة العدوية وابن العربي 185 – 638 هجرية على التوالي.
وهذان الأخيران طوروا الصوفية فأدخلوا فيها كثيرا من كلام المحبين والعشاق إلى حد الهيمان وكل نعوت العشق والفناء كما يسمونه حتى دخل في ذلك الرقص والتحرك اللا إرادي إلى آخر ذلك الذي نعرف جميعا.
وبعد فترة هؤلاء جاء بعد ذلك من أخذ للصوفية أورادا خاصة بها يطلق عليها اسمه هو وطقوس أخرى تقدم الكلام في أسمائها مثل الخواطر والمقامات والأحوال إلى آخره.
ولكن كل ذلك لم تتحرك الآيات القرآنية عن خصوصية معانيها ولا عن استقلاليتها بتوجيه الإنسان ومراقبة عمله وذكر الجزاء عليه بلا واسطة، وتأكيد عدم رجوع كل من خرج من هذه الدنيا ليخبرنا عن مصير أي إنسان ذهب عنها يقول تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون}، وهذا تمام الاستقلال كل أحد عن أي أحد وسنبين ذلك من القرآن إن شاء الله تعالي، فالرسل والملائكة والصالحون من الإنسان لا شفاعة لهم قبل أن يأذن الله للشافع في الشفاعة أصلا ويأذن له في طلبها للمشفوع له يقول تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وكذلك يقول تعالى في المشفوع لهم: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}.
وهذا دليل يتتبع الفقرات أعلاه بخصوصية الآيات، فالمراقبة والجزاء يقول تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة} إلى آخر الآية يقول تعالى: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير}.
وعندما نصل إن شاء الله إلى وصف الطريق المستقيم سنذكر استقلال الآيات عن تدخل أي إنسان في عبادة آخر أو مصير شخص آخر إلا أننا سوف نستمر قبل ذلك كله في تفصيل أركان الصوفية فيما بقي من الكلام على ركن الشيخ والركنين الآخرين: الأوراد والتلميذ يقول تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.