ما زلنا في هذه السلسلة المتعلقة بالصوفية لا طلبا في الرجوع عنها ولا تسفيها لأتباع طقوسها ولكن لخطورة مآل هذا الإنسان بعد هذه الحياة القصيرة ولا ملجأ من الله إلا إليه.
هذا من جهة ومن جهة أخري لتبيين ما جاء به هذا الكتاب المنزل من عند الله المعجز في أسلوبه ولعدم التطرق إلى تغيير أحكامه، مهما أوتي عقل الإنسان من وسع الخيال وإيضاح المقصد والاستدلال عليه من خارج هذه الآيات المحكمات.
يقول تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي نزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين}.
وفيما تقدم من سلسلة هذه المقالات أوضحنا أن للصوفية أركانا هي: الشيخ، والأوراد، والتلميذ الإنسان.
وقد تكلمنا على قضية طقوس الشيخ وميزته التي يصبح يتحلي بها وموقف التلميذ منه من ساعة مبايعته أو إعطائه للأذكار فيكون من تلك الساعة التلميذ الإنسان أصبح يظن أن عنده ملجأ أو مستند أو مرجعا أو سمه ما شئت لهذه الدار الآخرة أي بعد رحليه عنها الذي لا يعود منه ليخبرنا عن مصيره الأخروي الأبدي الذي ترك وراءه معالمه الصحيحة لما سيلقاه مسطرا ومنزلا من عند من وجده أمامه وهو الله جل جلاله، نزل بهذه الآيات القوي الأمين على من لا ينطق عن الهوى وبلغها لكل الأفراد بدون أي نيابة عنه ومن بين ما جاء في هذه المعالم قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}، وقوله تعالى: {من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا}.
فالإنسان لا يتعدد بمعني أن الإنسان الذي أصبح عنده أذكارا ملتزم لشيخه بأدائها هو وشيخه الإنسان الذي قد امتلأ كتاب الله من مخاطبته على حد سواء يقول تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى آخر الآية {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}،{يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} فهذه الآيات الأربعة تسوي بين من تعني بخطابها، اثنتان تعني عمل الجوارح العامة واثنتان تعني عمل جوارح أخرى خاصة وهي اللسان والقلب وكل الخطاب بدأ بالاسم الموصول الذي لا ميزة فيه لأحد عن أحد إلا بوصف الإيمان، يعني أن الشيخ والتلميذ على حد سواء، فبما أن الوضوء والصيام لا نيابة فيها ولا توجيه إلا بصحة أدائها فكذلك التقى المعروف وصفه في القرآن في كثير من الآيات والذكر المبين أيضا ألفاظه ووقته إلى آخره، فالفصل بين متعلق الآيات المخاطبة للجميع ترجيح للمتساوين بدون مرجح.
وهكذا سوف نسرد كثيرا من التساوي الذي لا تمييز فيه بين الشيخ والتلميذ جاء منصوصا في القرآن لا معاملة معه إلا بالاستسلام لفحواه.
يقول تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
فالتعبير هنا بالإنسان الشامل للجميع وكلمة - نعلم هنا للاختصاص - لأنها ترتيب علي الانفراد بخلق الإنسان كل الإنسان، فوسوسة النفس لا يعلمها إلا الله، كما أن تقسيم المراقبة المستويه على كل من الشيخ والتلميذ وهي وضع الملائكة الكتبة على كل منهما من غير أي إشارة للاختصاص ومراقبة ما يكتبون من الله نفسه لأنه هو الذي يميز لهم ما يكتبون في اليمين أو في الشمال يقول الله عن قول الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}.
وعندما نذهب إلى مساواة أخرى يقول فيها المولى عز وجل نفسه في آياته المحكمات: {وكل إنسان} سواء كان شيخا أو تلميذا {ألزمناه طائره في عنقه} أي ما سيقع له بعد لقاء الله {ونخرج له يوم القيامة} من محفوظات عمله عندنا {كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك } لا نيابة عنك {كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا} ولا شك أن هذه الوقائع المكتوبة المنطوقة مفهومة المعاني لا يختلف فيها إنسان عن إنسان وهي مكان إعلان النجاح أو ا لرسوب يقول تعالى بعدها: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية} إلى آخر الآية، أيتشكك عاقل هنا في أن ظن الحساب سوف لا يقع للتلميذ ولا يقع للشيخ أو لا يقع لأي منهما أي أنه لا يقع إلا لمن لا شيخ له في الدنيا وهنا يقول الله: {ولا تحسبن الله غافلا عن ما يعمل الظالمون} أي بعضهم هذه هي طريقه وبعضهم عنده طريق آخر تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
فمع أن النصوص الإسلامية تنطق بموقف الأنبياء عند ذلك الموقف وأن كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي ويكررها للتأكيد ويقول صلى الله عليه وسلم لعائشة في الحديث الصحيح إن الناس تحشر يوم القيامة عراة وتسأله عن كيفية ذلك مع حرمة النظر للبعض فيجيبها وهو الذي لا يجيب إلا بإذن الله أن الأمر أشد وأشد من أن ينظر بعض الناس إلي بعض، ولا شك أن من بينهم الشيخ وتلميذه ومن لا يستطيع أن ينظر إلى أحد سوف لا ينفعه.
وهنا كليات أخرى في القرآن محكمة لا غموض في تأويلها تفصل نهائيا بين الإنسان التلميذ والإنسان الشيخ يقول تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} وعلينا أن يدخل في قلوبنا أن القرآن نزل بلسان عربي على أمي ليبلغه لأمة أمية ولكن تعرف معاني لغتها وتفنن أساليبها، ولذا لما جاء أهل صناعة تقسيم أفانين لغة العرب كان المرجع الأول لهم هو القرآن لأن القواعد التي بنوها في هذه الصناعة جاء القرآن مطابقا فيها لكلام أصحاب النطق العربي طبقا للنطق العربي الأمي.
ونظرا لذلك فقوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} فنلاحظ هنا النطق بنكرات الجنس المضافة التي لا تترك شيخا ولا تلميذا مثل شخصنة عموم بطاقة التعريف ومثل وجوب ستر العورة في الدنيا ولله المثل الأعلى، فعبارة الإيضاح مطلوبة في الدين (كلموا الناس بما يفهمون) إلى آخر الحديث، فكل عاقل يدرك أن احتياجه للمساعدة فيما لا قبل له به أحوج لها هو في الدنيا من الآخرة.
فإذا كان أول مراحل الآخرة هو الموت والرسول صلي الله عليه وسلم يقول عند وفاته (إن للموت لسكرات) وتراه ابنته فاطمة رضي الله عنها في تلك الحالة وهي تقول عندما رأته في كربة الموت (وا كربة أبتاه) فيجيبها: ( لا كرب علي أبيك بعد اليوم) ولم يقل لها أنا لست في كربة وهو يكره أن يراها في حزن وكلامه معصوم عند الجميع ولكن لا يقول إلا الحق لا كربة بعد اليوم لأنه هو الذي اختار لقاء الله.
فإذا كنا نشاهد التلميذ يتقلب مرضا ويأتيه الألم من كل مكان والشيخ جالس صحيح لا يشتكي من شيء ويتمتع بكامل الصحة الدنيوية ولا يستطيع أن ينفع فيما هو واقع في الحال، أيظن عاقل أن يتدخل في شأن إنسان اختص المولى عز وجل في شأنه من يوم خلقه من ماء إلى يوم قدومه عليه ليكلمه ليس بينه وبينه حجاب: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.
وإلى الحلقة القادمة بإذن الله: كيف نفهم الإسلام (15) الصوفي المسلم (11)