لقد قلنا في نهاية الحلقة أعلاه أننا سنقوم بتعريف كل من الإسلام والديمقراطية كل على حدة، ولكن قبل ذلك أبدأ بهذه الآية: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم}.
فلا شك أن المسلم لا يمكن ولا يجوز له أن يقارن ما أنزل الله عليه بواسطة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم وما يلقي الشيطان في قلوب الذين في قلوبهم مرض، والمرض هنا أعتبره عند المسلم عندما يجعل لغير التشريع الإسلامي مكانا في قلبه، فقلب المسلم يدرك أن المسلم لا يزاول أي عمل له إلا بقلبه أو قوله أو فعله ولا بد أن يكون وحده أو في جماعة، ولا بد أيضا أن يكون يقظانا أو نائما وكذلك لا بد أن يكون ذلك في أنواع الحياة من تشريع جنائي أو أحكام شخصية، ولا بد أن يكون في دولة تؤمن سلطتها بسلطة الله على الإنسان أو دولة كتابية أو ملحدة.
وفي كل هذا يدرك أن الله سائله فيه ليس بينه وبينه ترجمان، وأنه عند الله في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهو موضوع أمامه، وهنا يعلم المسلم غير مريض القلب أن الله أورد الوصفين لعمله بالنكرة أي كبيرة أو صغيرة عملها حسب وضعه أعلاه.
فمثلا إذا كان قام بالعمل في الجماعة أو تحت أي سلطة وفي أي ظرف فسوف يسأل عنه منفردا.
وبهذا أعرف الإسلام بأنه النظام الشامل للعقيدة والعبادة والمعاملة مع الله والإنسان، والذي هيأه الله لكل إنسان خلقه ووضعه تحت مراقبته في الحياتين القصيرة في الدنيا التي يتخلق منها وصف الحياة الأبدية في الآخرة، وكل إنسان ميسر لإرادة الله بالعمل طبقا لمآله.
وبهذا التعريف منه نزع الحرية الكاملة من كل إنسان حتى في فكره، فبمجرد خلقه لا يستطيع ألا يبلغ، إلا إذا مات، وإذا بلغ لا يستطيع ألا يموت، وإذا مات لا يستطيع أن يغيب عن الوقوف بين يدي الله، فالمسجون الدنيوي حر في تفكيره، والمسجون من طرف خلق الله له غير حر في تفكيره، فمن يعتقد – وعليه أن يعتقد – أنه سيسأل عن كل شيء وسيترتب عليه جزاء إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، سيدرك أن حرية الإنسان لا تبدأ إلا بعد دخوله الجنة في الآخرة بعد قول الملائكة لإنسان الجنة بعد إذن الله له في دخولها: {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما توعدون} فتبدأ الحرية المطلقة وإلى الأبد من هذه اللحظة.
وبذلك نصل إلى تعريف الديمقراطية بأنها نظام لا يدخل وجوده في الآخرة وجودا ينفع صاحبه، لأنها كلها مبينة على تشريع بشري سواء تشريعا يتعلق بعمل الإنسان أو بحريته: بمعنى ألا عقوبة إلا بنص تصلح للإسلام ولا تصلح للديمقراطية وهو النص الشرعي مثل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}}، أما عند المشرع البشري لا عقوبة في الدنيا، أما الآخرة فلا وجود لها في القلب المريض سواء مرضا مزمنا من ميلاده إلى مماته، وهو الكفر والعياذ بالله، أو المرض الطارئ بعمله سواء فكرا أو قولا أو فعلا الصادر من إرادته ولو كان مسلما تحت تشريع الديمقراطية، وهنا أصرح أنه إذا كان مع ذلك يؤمن بالله وباليوم الآخر بمعنى أن عقيدته صحيحة يكون إلى أمر الله إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه ويجري فيه عندي الخلاف المعروف بين فكر المسلم المتعمد وغيره بخلاف 1% من الإشراك.
ولكنه في هذه الحالة لم يكن رعى حول الحمى فقط، بل رتع في وسط الحمى المضروب حول من لا يمت إليه بصلة.
وبذلك يكون تعريف الديمقراطية: التقلد بنظام غير صادر من إله الإنسان الذي سوف يجد الله عنده في الآخرة مثل سراب الدنيا {حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}.
ولكثافة السد الذي بيني وبين العلم فقد يتبين الفرق بين تحليلي لتعريف الإسلام وتعريف الديمقراطية عند العلماء وما يكتبون في كتبهم من المناقشة بين العلماء الرافضين للديمقراطية والعمل بها في الإسلام وبين من يفسحون لها داخل المجتمعات الإسلامية ويسمون أنفسهم بالمجددين، أي ظاهر أنهم يحاولون إدخال الديمقراطية في نظام قواعد في الإسلام، بعضها جاء في القرآن مثل: {ولا تنسوا الفضل بينكم} أي في إسقاط نصف المهر بالاختيار لمن لم يدخل بزوجه وطلقها، وسواء جاء في نص الحديث مثل (لا ضرر ولا ضرار)، وسواء كان قد قام به المجتهدون، بل فعلوه تارة في أحكامهم وتارة تركوه قاعدة مثل: الاستحسان والقياس والمصالح المرسلة والاستصحاب إلى آخره، وعلى رأس ذلك كله وهو الركن الأساسي الذي تمسك به المجددون ألا وهو: المقاصد الشرعية، وجعلوها مشجبا علقوا فيه كثيرا من نظام الديمقراطية دون أن يجعلوها أي المقاصد الشرعية هي الفاعل بل هي المفعول بها.
هذا الأصل الجديد عند المجددين توسعوا فيه توسعا حذفوا منه ملاحظة المسلم: هل الله أذن في هذا التوسع أم على الله يفترون؟
فمن المعلوم أنه ومن يوم خلق الله أبانا آدم وجعله خليفة على هذه الأرض وأرسل بعده رسله بالبينات فإن المولى عز وجل مع هذه الارسال لم يتركه مطلقا دون التوجيه من عنده عندما يعمل الإنسان بإنسانيته أو يجتهد خارج كلام الله أو ينسى كما بدأ بذلك الوالد الأول صلى الله على نبينا وعليه صلاة أبدية نبره بها في حقه علينا.
وعلينا أن نستعرض الآيات القرآنية وفعل جميع الأنبياء حتى النبي صل الله عليه وسلم، فسنجد المولى عز وجل لم يترك الجميع على عصمته ولا على فهمه للدين وقبوله له وعمله به، بل وجههم أثناء حياتهم حتى نبينا صلى الله عليه وسلم: {ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}، {عفا الله عنك لم أذنت لهم}.
وبهذه العجالة أعلاه عن رعاية الله لشرعه مهما كان المتصرف فيه نصل إلى نوع تصرف المجددين في شرع الله حيث بدأ ومن قمة الشرع وهو خلافته في الأرض لمن يستخلفه الله فيها للحكم بين عباد الله بالحق ويأمره فيه بعدم اتباع الهوى خوفا من الضلال عن سبيل الله يقول تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}.
وهذا الخليفة يميزه الله عن غيره بقوله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أٌقاموا الصلاة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
وعلينا أن نقف مع هذه الآية ثلاث وقفات الأولى في التعبير باسم الموصول عن الخليفة والأخرى بالتمكين له في الأرض لترك هذا الأمر العام المعبر عنه في الثالثة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالأولى تعني أن أي خليفة سواء كان أًصله أو لونه أو انتماؤه لأي جنس من أجناس البشر، والثاني نوع التمكين سواء كان جاء بأي اختيار ولو جاء غلبة لأنها تدخل في التمكين من الله حيث الضمير "الله" حاضر في الآية "مكناهم في الأرض".
أما نوع العمل ففيه التعريف به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هذين الأمرين ينتظم تحت ألفاظهما كل فعل يرضاه الله لعباده وكل فعل ينكره الشرع وهو ما الله به في قوله تعالى: {وما آتيكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وعند هذه القلعة في الإسلام: وهي أمر الله لخليفته في الأرض بالتمكين له فيها أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر نتوقف ونصل إلى الحلقة القادمة بإذن الله: كيف نفهم الإسلام (17) الديمقراطية (3)