يمثل العنوان أول مثير أسلوبي في النص الأدبي، كما يعد إطارا جزئيا لخلق (الإيحائية) كلما كان مشحونا بدلالات تكثف المحتوى وتعمق فكرة النص ومضمونه، فهو بنية إشارية إلى داخل القصيدة يتعالق معها بالسياق في بنية دلالية، إنه مدخل أساسي للقارئ كي يلج أغوار النص الإبداعي العميقة قصد استنطاقها من النواحي التركيبية والدلالية والتداولية، فضلا عن وجود علاقة جدلية بين النص وعنوانه، فالعنوان لا يمكن فهمه وإدراكه مستقلا بذاته، كما أن النص من دون عنوانه يبقى عائما وعاجزا عن صوغ دلالته، وفى ذلك تكمن أهمية هذا الترابط الدلالي الوثيق بين العنوان والنص.
العنوان مفتاح تقني يجس به نبض النص وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي، وهذه الوظيفة لا ينهض بها إلا العنوان ذو البعد الإيحائي الذى يعد مدخلا دلاليا إلى عمارة النص وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة، وهو بهذه الكينونة لا يمثل بنية نهائية وإنما هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى، أي أنه بنية افتقار تغتنى بما يتصل بها من قصة ورواية وقصيدة لتؤلف معها وحدة على المستوى الدلالي، بحيث لا يمكن فهم العنوان منقطعا عن نصه، ولا تدرك إشاراته وإيحاءاته إلا من خلال العلاقة بينهما.
وقد كان الشعراء الموريتانيون في كثير من عناوين بداياتهم الشعرية؛ يميلون إلى العنوان التجميلي أو التصريحي الذي ينتظم في سياقات دلالية ذات أبعاد وجدانية أو واقعية أو تاريخية، مما يسوغ وجود كثير من النصوص ذات عناوين أقرب إلى التشبث بالعنصر التجميلي، دون أن يحفل هذا النوع من العنونة بالأبعاد الإيحائية التي بدأ يتعمق الوعي بها في ضوء المعطيات النقدية الحديثة، فأصبحنا نلمس تحولا لدى الشاعر الموريتاني إلى استثمار "الدلالة الإيحائية" تمثل في نزعته بالعزوف التدريجي عن "العنوان التجميلي إلى العنوان التأويلي" المشحون بالدلالات، وهو تغير عميق في سلم وظائف العنوان.
وهكذا تعمق الوعي بأن العنوان - وفقا لرؤية نقاد الحداثة - يشرف على النص لا ليضيء ما يعتم منه فحسب، بل ليوجه القراءة كلها، وهذه خلاصة ما استقرأه شعراء الحداثة من "فلسفة العنونة" واعتبار العنوان بنية نصية وليس لافتة خارجية مجردة.
وقد بدا هذا الإدراك لوظيفة العنوان مبكرا في نصوص كثير من الشعراء الموريتانيين، خصوصا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي مع (أحمدو ولد عبد القادر، باته بنت البراء، محمد ولد عبدى، بدى ولد ابنو، ببهاء ولد بديوه...) فهؤلاء أخذوا يربطون بين العنوان والنص/ المتن بأسلوب موح دلاليا، فلم يعد العنوان عندهم مجرد لافتة تجميلية أو وسيلة محايدة لا تمت بصلة دلالية إلى النص.
وقد أفضى الاستقراء والتأمل في عناوين نصوصهم الشعرية إلى استخلاص بعض السمات والخصائص التي تطبع أنماطها التركيبية، فضلا عن رصد تعالق مفرداتها التي يستثمر بعضها طاقات مجازية ترفد بعدها الإيحائي، فتثير القارئ بما يتعانق فيها من متنافرات أو يجتمع فيها من متناقضات تدهش المتلقي، فتشده إلى محتوى النص وتحفزه على استكناه دلالته.
وقد برزت في هذه العناوين أنساق تركيبية يمكن رصدها في الأنماط الآتية:
العنوان المفرد :
وهو ما يتمثل في لفظة مفردة واصفة أو مخبرة عن موصوف لا تفصح عنه؛ لتحفز القارئ على استكناه دلالته مثل: ( الغسق - السنبلة - الكشف)
عناوين تقترن فيها الصفة بموصوفها مثل: (الدموع الأخيرة - حنظلة الحجري - الصلوات الهجائية)؛
وثمة نمط آخر من العناوين اتبع فيه أسلوب الإضافة: (صلوات الهزيع - فجر القتاد - نزيف المتاهات )؛
وعناوين تقوم على العطف: (المواقف والمخاطبات - ترنيمة الظلماء والحنين - أسفار العشق والموت) ؛
وما يجمع بين الوصف والإضافة: (تمزقات حلاج موريتاني - ابتهالات متنبئ معتوه - مرثية الصقور العابرة)؛
وما يتألف من نكرة وإضافة وجار ومجرور: (ترتيلة محروم من سورة النور - استطلاعات صعلوك على خارطة الفقر)؛
وثمة عناوين أخرى تتخذ أنماطا غير مطردة ، وتتفاوت طولا وقصرا وقد تأتى في صيغ فعلية أو استفهامية .
ويتفرد الشاعر بدى ولد ابنو بأسلوب خاص في العنونة إذ يوظف الحروف الهجائية ، ويجعلها عناوين لمقاطع مطولته (الصلوات الهجائية ) التي جاء كل مقطع منها موسوما بحرف هجائي ، وبعد أن يفرغ من تتبع الحروف الهجائية ، يعمد إلى عنونة أخرى في الجزء الثاني من الديوان يسميها (اللاهجائية) فتتصدر نصوصها عناوين من قبيل: (حرف العزلة - حرف الأمل- حرف النفي - حرف الموج - حرف الضياع..).
وتبدو النزعة الصوفية واضحة في هذه التقنية المتبعة في عناوينه، وهو يكاد يفصح عن ذلك إذ يقول: "طرقنا أبواب الحروف الهجائية، فهجرتنا البدايات وأنذرتنا النهايات، فلعلنا ننشد الحروف غير الهجائية" ثم يقتبس مقولة ابن عربي: "فمن لم يتحقق بحقائق الأسماء والحروف، فهو عن كشف سر غوامض الأشياء مصروف".. فالتراث الإشراقي الصوفي له حضور فاعل في تجربة الشاعر، ويتخذ حسب تعبير الأديب المغربي يحي الشيخ "مدلولات إيحائية عميقة توفر فضاء؛ تسبح فيه الرؤى وتمتاح منه الصور".
والمتمعن الفاحص لتلك النصوص في سياقاتها السوسيو - ثقافية وصياغاتها اللغوية وسماتها الجمالية، يدرك بجلاء ما تنضح به من حضور دلالي موح ومميز للعنوان الذى شكل إضاءة بارعة إلى محتويات النصوص من جهة، ومثل في الوقت نفسه إحالة عميقة على مرجعياتها الفكرية وحمولتها الإديولوجية وخصائصها الإبداعية.