وصلنا في هذا الموضوع في المقال الماضي إلى أهم الدعائم التي يعتمد عليها من يسمون أنفسهم بالمجددين ألا وهو المقاصد الشرعية.
وهنا أنبه أن معني كلمة المقاصد الشرعية عندها دلالات يجب مراعاتها، وهي أنها مقاصد شرعية وليست مقاصد بشرية.
وبهذا المعني ينفصل الإسلام فصلا تلقائيا عن الديمقراطية لأن المقاصد البشرية لا رصيد لها في التفكير عند عرض فكرتها على المجتمع المسلم لعدم انطلاقها من قلب يؤمن بالآخرة أو هكذا هو المفروض.
أما المقاصد التي تنعت بالشرعية فمعناها أن المشرع بها سواء كان عالما أو مفكرا لا بد أن يبدأ بتعريف الإسلام أولا وجميع حيثياته أي ثوابته التي تتماشي مع مراعاة خصوصيته: هل هذا مكان النظر إلى اليسر والتخفيف أم مكان العزة والأخذ بالعزيمة.
فهذه الخصوصية ثابته في مكانها يقاس عليها فيه ولا سيما إذا كان هناك نص من الوحيين من غير التوسع في استعمال ذلك النص ليخرج من المقاصد الشرعية إلى المقاصد البشرية، لأن النص تركه الله مقروءا بدون نسخ ومن غير نسيان ويدخل تحت معنى هذه النصوص أكثر مستجدات الأحداث التي عمد إليها المجددون وسحبوها معهم ليدخلوها في المقاصد الشرعية مع بقائها بأفكار البشر من ما يسبب إلباس الحق بالباطل، فهي نفسها تفكير بشري وتأويلها من طرف المفكرين أنها مقاصد شرعية لا يرفعها تلقائيا عن التفكير البشري، فالمجددون لا آلة لهم شرعية إلا قياسها بقواعد الشرع وهذا قياس مع الفارق، فالقياس على قواعد الشرع داخل فيه اعتقاد المؤاخذة على الامتثال والاجتناب مثل قضية تعيين الخليفة للمسلمين إذا لم يكن تحريف الكلم عن مواضعه فهو تحريف لمقصد الشارع إلى المقصد البشري، أي التشريع كله بما فيها الخلافة الأعلى والمتفرعة عنها وكذلك مثل قضية مبدأ الرق والحريات العامة والمرأة وحقوق الإنسان والميراث وزاج المسلمات بالكتابيين إلى آخره.
كل هذه الأشياء جاءت الديمقراطية واقترحت معاملة لها مبينة على الاجتهاد البشري المحض الذي لا يفكر في السؤال عنها أمام الله، وكأن الإسلام لم يضع لها تشريعا مفصلا ومع ذلك هو خالقها ورازقها ويميتها ويحييها وهو أعلم بها: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
وبعد أن اكتمل تشريعها عندهم المبتور عن التفكير في الآخرة، يدخل المجددون على خط هذا التشريع وبدلا من أن يجروه إلى المقاصد الإسلامية التي سوف يجد فيها أمامه أوامر الله ونواهيه وجزاؤه وعقابه الأخرويين الذين هما أكثر سبب لامتثال التشريع من حيث هو يقومون بجر المقاصد الشرعية إلى الديمقراطية ويسمونها بهذا الاسم المنزوع منه قضية الأجر أو المؤاخذة فيدخلون هذه المقاصد الشرعية في جوف المقاصد البشرية، وكأن شيئا لم يفتقد من التشريع الإسلامي، والحقيقة أن المفقود أن أساس المقصود بالتشريع هو قضية الامتثال لما يترتب عليه منها وهو أصعبه على الإنسان ساعة وقوفه بين يدي الله والسؤال عن الامتثال، ولذلك دائما يذكر الله عباده بهذا الموقف يقول تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت}، ولا أدل على أن هذا اللقاء يبدأ من ساعة الموت من هذه الآية، ولا شيء أٌقرب للإنسان من الموت ا لتي لا وقت محدد لها.
فالخلافة عن الله في الأحكام ليست مثل الخلافة عند البشر، فالحكم الشرعي جزء من الدين، والدين قد أكمله الله بالنص يقول تعالى عن كمال الدين: {اليوم أكملت لكم دينكم} ويقول من جهة الحكم بعد الخلافة الأولى لأبينا آدم عليه السلام والتي هي قصد الشارع من تكوينيه وهو خلافته في الأرض هو وأبناؤه من بعده: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} إلى آخر الآية.
ولذا فهم الفقهاء الذين هذا وصفهم وهو أعم من العلماء والمفكرين أن من تصدر منه الأحكام وينفذها يكون بذلك موقعا عن الله، ولذا جعل الفقيه ابن القيم هذه الخصوصية عنوانا لكتاب استوفى فيه البحث عن صحة ذلك وسماه: "الموقعون عن الله".
فالخليفة عن الله إذا لم يجد نصا ظاهرا من الوحيين لا يعود إلى فكره المحض بل يعود إلى قواعد الشرع الثابتة في نصوصه، وإذا تفرعت تفرعت منه أي من جميع مقاصده.
ومقاصد الشرع لا تعني الآيات التي يسردها المجددون في طلب اليسر وإزالة الضرر وعدم العنت إلى آخره فقط.
فالقرآن الذي هو أساس مقاصد التشريع متعلق بكل حياة الإنسان بمعنى أنه هو والديمقراطية يلتقيان في التحكم في جميع البشر، فالديمقراطية ينتهي لقاؤها مع الإنسان عند انتهاء حياته، والقرآن يذهب مع الإنسان إلى قبره ومحشره ووقوفه بين يدي خالقه.
وعندما كان القرآن ينزل نزل فيه بناء أمة متكامل وليس بناء من يحتاج إلى التسيير ورفع الحرج إلى آخره.
بل جاء فيه وفي فعل الرسول صلي الله عليه وسلم ما يدعو إلى العزة والعلو وإظهار الشجاعة والاكتفاء الذاتي في كل شيء يقول تعالى في شأن عمل الحاكم أي الخليفة: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}، والعمل بهذا هو الذي يترتب عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فأي حاكم توفر فيه شرط الله وهو التمكين في الأرض ولم يقم بأوامر الله فاسمه المنتحر عند أول لقاء مع الله، ولا ينفعه تأويلات المجددين.
فضمير الإيمان هنا معتبر أي هو الذي يترتب عليه الطاعة فهو الجامع بين المطاع اسم المفعول والمطيع اسم الفاعل.
فإذا كان الخليفة لا يشعر بأن الإسلام هو الذي أتى به وإنما أتت به نتائج هذه الانتخابات المؤسسة على غير مقاصد الإسلام فكيف يقوم المجددون بإدخال هذا التشريع في جوف الإسلام ليترتب على امتثالها ما يترتب على من جاء به الإسلام للخلافة وأوجب طاعته مع أن مشرعها ومفصل قوانينها لا يستند في كل ذلك إلى مقاصد الشريعة.
فالإسلام مستقل بعزته {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} ومستقل بسموه {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وبشجاعته واستقلاله {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} ويقول تعالي: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} إلى آخر الآيات.
فهل في الإسلام ترك العزة أو خفضها عندما تحضر المغالبة بينها وغيرها ليكون الذل والخنوع للغير؟
وهل يجوز عدم الاستجابة لله إذا كان الوقت وقت تضحية يكون بدلها تولية الأدبار لأن الله يقول {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}؟
فالإسلام لم يكن في يوم من الأيام أرضا جافة بوارا لا حمى لها يأتيه الفلاح بآلته يريد الانتفاع منها من غير إذن له ويدخل إليه من غير مداخله.
ففلاح الأحكام الإسلامية عندما يأتي بآلته الفكرية الأصولية والمقاصدية وقواعده الفقهية فعليه أن يعلم أن مداخل التشريع هذه كانت أمامه في الإسلام ولكن ليست من فكر البشر ولكنها مما أنزلها خالق البشر وتبليغ خاتم الأنبياء خبر ما بين المدر والحجر.
فالمقاصد الشرعية جاءت لينتفع بها كل إنسان بمفرده لأنها داخلة في بناء الأمة الإسلامية وتأسيسها، فبناء الأمة الذي يشملها هو ما تركها عليه محمد صلى الله عليه وسلم من عزة ورفعة وإباء فذلك هو المقصد الشرعي والقواعد الفقهية الثابتة.
يقول تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.
فهذه الطائفة عليها ألا تكون حاملة لمقاصد البشر من الحكم باليسر وإزالة الضرر إلى آخره، وهناك كثير من الأمثلة الخاصة بمقاصد القرآن التي جاءت في الإسلام سنتعرض لها بإذن الله في الحلقة القادمة
كيف نفهم الإسلام (18) الديمقراطية (4)