لا أملك شخصيا من المعلومات المباشرة ما يسمح لي بالتأكيد بالإيجاب على فرضية التساؤل السابق حول ما إذا كانت فرنسا تقف وراء ما يتعرض له الموريتانيون في مالي من استهداف، ولكن بعض ملابسات الحادث الأخير (كالحديث مثلا عن مشاركة طائرة روسية في استهداف الموريتانيين) إنما تمثل بالنسبة لي مؤشرا إضافيا على مصداقية ذلك الاحتمال.
فبطبيعة الحال ليس من مصلحة قوات "الفاغنر" التي زعمت فرنسا أن الحكومة المالية الجديدة استقدمتها لتستعين بها على بسط نفوذها وسيادتها على التراب المالي، ليس من مصلحة تلك القوة أن تستهدف رعايا الدولة الوحيدة من الجوار التي حافظت على علاقات طيبة مع حكومة مالي التي استقدمت تلك القوة، ليس فقط لأن الرعايا الموريتانيين يمثلون في مثل هذه الحالة رعايا دولة صديقة ومؤثرة إيجابيا في الشأن المالي، وهي تبعا لذلك حليفة غير مباشرة لقوات الفاغنر نفسها، وإنما أيضا لأن أولئك الموريتانيين هم بالأساس مدنيون مسالمون ولا يمثلون أي خطر على تلك القوات الأجنبية، ولا على مصالح الدولة المالية.
ولكنه على النقيض من مصلحة قوات الفاغنر هناك مصالح عديدة جلية وواضحة للسلطات الفرنسية في وقوع أزمة بين قوات الفاغنر تلك من جهة، وبين الدولة الموريتانية من جهة أخرى:
فاستهداف قوات الفاغنر للمواطنين الموريتانيين على التراب المالي سيثير لا محالة حفيظة الدولة الموريتانية ليس فى مواجهة تلك القوات فحسب، وإنما سيثير حفيظة الموريتانيين جميعا على الحكومة المالية التي تعتبر المسؤول الأول عن تأمين سلامة الموريتانيين على أراضيها، وهي فوق ذلك (حكومة مالي) هي من استقدم قوات الفاغنر ومسؤولة تبعا لذلك عن تصرف تلك القوات.
كما أنه لا يخفى على أحد أن الموقف المتشنج الآن لفرنسا من روسيا في الأزمة الأكرانية لا تكمن بواعثه الحقيقية فقط في حيثيات تلك الأزمة وانتماء فرنسا لحلف الناتو والاتحاد الأوربي، وإنما يكمن ذلك الموقف الفرنسي الريادي في الحملة على روسيا، في الصراع القوي الذى برز منذ سنوات بين فرنسا وروسيا على النفوذ في مناطق إفريقية عديدة، تريد روسيا أن تستخلصها لنفسها بعدما ظلت عقودا عديدة مناطق نفوذ ممتازة للدولة الفرنسية، بما في ذلك دولة مالي نفسها.
وتبعا لتلك الحقيقة، فإنه سيكون من المصلحة الفرنسية المحضة نشوب أزمة بين موريتانيا ومالي بسبب تصرفات قوات الفاغنر، إذ إن من شأن ذلك تشويه صورة روسيا كقوة استعمارية، تنشر الذعر فى العالم حتى باستخدام شركات أمنية مرتزقة تابعة لها، وليس فقط عن طريق جيوشها الرسمية، وتشويه حكومة مالي الحالية بسبب علاقتها المشينة مع قوات مرتزقة غير منضبطة، وإرغام موريتانيا على اتخاذ موقف ضد مالي، وفوق هذا كله، الضغط على حكومتي مالي وموريتانيا معا، من أجل الانسجام في الموقف الفرنسي خصوصا، والموقف الغربي عموما كموقف مناهض لروسيا، ويدين سياساتها التوسعية المهددة للسلم والأمن في العالم ولمصالح الشعوب في مختلف القارات.
وخلاصة القول: إنه من الواضح تماما أنه من المصلحة المطلقة لفرنسا في الوقت الحاضر أن ينشب نزاع إقليمي مباشر، أو على الأقل أن تنشب أزمة بين موريتانيا وجارتها الأطول حدودا معها والأكثر استراتيجية، والأعمق تاريخا والأكثر تداخلا سكانيا والأعمق مصالح والأقوى شراكة جمهورية مالي الشقيقة.
كما أنه من الواضح تماما أن أي أزمة وأي نزاع من هذا القبيل بين موريتانيا وجمهورية مالي سيمثل كارثة على المصالح المطلقة لموريتانيا، مهما كان ميزان التفوق والنصر فيه محسوما لصالح هذه الأخيرة، لأن الفرصة التي تتيحها الظروف الحالية لاستغلال العلاقات الطيبة مع هذا البلد الجار هي فرصة تاريخية بكل ما في العبارة من معاني، وقلما يجود التاريخ بمثلها في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة، لأنها بكل بساطة، وباختصار - دون ضرورة لتفاصيل أغلبها معروفة - فرصة من شأن استغلالها استغلالا حسنا، أن تجعل لبلدنا يدا بيضاء لا تنسى، ويدا عليا لا تسقط على هذه الدولة الجارة المهمة التي من السهل جعلها عمقا استراتيجيا كثيرا ما سنحتاجه كلما اشتد التنافس في المنطقة المهيأة في المستقبل أيما تهيئة للتنافس المحموم في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة.
وعلى العكس من ذلك سيكون من السفاهة بمكان أن نقبل - تحت أي ضغط، أو أي تخطيط أو مخطط - أن تنقلب نعمة هذه الفرصة التاريخية والاستفادة منها اقتصاديا وسياسيا، واستراتيجيا إلى نقمة من شانها أن تدخل تلك الدولة وتدخلنا معها فى متاهات لا قبل لنا جميعا بها، ولن تخدم في النهاية إلا الأعداء المشتركين للدولتين، وشعبيهما ولنظامي الحكم فيهما، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وتتلخص - من وجهة نظري الخاصة - أفضل وسيلة للتعامل حاليا مع الوضع فى هذا البلد المجاور في تحقيق النقاط التالية:
- تكثيف تواجد الأجهزة العسكرية والأمنية على طول الحدود وفتح مناطق عبور محدودة وآمنة.
- تجميع جميع التجار الموريتانيين داخل باماكو والمدن التي تسيطر عليها الحكومة المالية دون غيرها من الأماكن.
- سحب جميع المنمين الموريتانيين إلى داخل التراب الموريتاني، والاتفاق مع الحكومة المالية على توفير الأعلاف المنتجة بكثافة لديها - وغير الرائجة حاليا بسبب حصار دول الأكواس - بأسعار تفضيلية لأولئك المنمين الموريتانيين
- حظر النقل على جميع المركبات والسائقين الموريتانيين من وإلى تلك الدولة أو عبرها والاكتفاء بدلا من ذلك إلى الوصول إلى أقصى نقطة مؤمنة من التراب الوطنى، والعودة من هنالك، حتى تعود السيطرة المطلقة للدولة المالية على عموم ترابها، والاعتماد حصرا - داخل الأراضي المالية - على وسائل النقل المالية للبضائع أيا كانت التكاليف المترتبة على ذلك.
بحيث نضمن بواسطة تلك الإجراءات الاستفادة القصوى من إمكانيات التبادل التجارى دون ما أي مخاطرة قد تمثل بالنسبة لنا أحراجا، أو تلزمنا بردة فعل غير مضمونة العواقب.