كيف نفهم الإسلام (18) الديمقراطية (4)

في الحلقة السابقة وصلنا إلي مناقشة الاسم الجامع لملجأ الإسلاميين أو المفكرين والعلماء الجدد الذي لجأ إليه هؤلاء في الدنيا عن الخطاب الاستقلالي للشرع الإسلامي الذي نزل إليهم من الله مفصلا كما قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين}.

 

ولا شك أن هذا التفصيل الوارد في الآية يشمل كل حكم أو إرشاد صح عن النبي صلي الله عليه وسلم سواء كان نصا أو قواعد ترك ألفاظها أو فهم لفقهاء من منطوق اللغة العربية أو مفهومها أو دلالتها بمعنى كل حكم استخرجه علماء الأمة من أصول الدين قرآنا أو سنة إلى آخر قواعد الفقه المستندة إلي قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} عقيدة وخوفا وطمعا من مآلات هذه القواعد الاجتهادية ألا يلتبس بها غرض دنيوي يجعلها حسرة على صاحبها يوم تبلى السرائر.

 

هذا الملجأ الذي نتقدم في مناقشته هو المقاصد الشرعية كما يقول المجددون.

 

فمن المعلوم أن هذا المقصد هو الذي يأوي إليه عظماء العلماء المفكرين من العالم الإسلامي مثل: حسن الترابي في السودان، ومحمد الطاهر بن عاشور والغنوشي في تونس، وإلى حد بعيد يوسف القرضاوي مع محاولته أسلمة الفكر المسلوب من الأمة الإسلامية من طرف أعدائها بالرضى بتطبيقه كما هو فيها، وننبه أنه أصبح فينا من هم سماعون لهم.

 

ورغم أن هؤلاء علماء أجلاء ومفكرون مع أقلامهم التي لا تفتأ تمتح من غرائب العلم وتصوير ذلك كأنه وحي أنزل حتى يخيل للقارئ أنه إنشاء دين جديد يرث الإسلام عصبة مع فقدان صاحب أي فرض.

 

ولهذه الفكرة الأخيرة أرجو أن يسمح لي القارئ أن أخرج قليلا إلى موضوع قصير طويل لأبين فيه أن الله تبارك وتعاىي لم يترك له شريكا في خصوصيته كائنا من كان، وبين ذلك مفصلا في كتابه الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

 

هذه الخصوصية أمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يعلنها للناس ويبدأ بنفسه: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله} وآخر الآية فيه حجة على ذلك.

 

وتأكيدا لهذه الحقيقة أورد الله في كتابه العزيز جميع أنواع القربات، وكذلك خصوصية العلم وكثرة العبادة وتميزها، موضحا أن كل ذلك لا ينفع أحد أحدا في الدنيا ولا في الآخرة، فضرب مثلا بالقرابة: الولد لأبيه والعكس والزوج وكل الشافعين أنبياء وكذلك الزوجة لم يضرها كفر وطغيان زوجها، وعمم هذا مرة أخرى في آية واحدة يقول: {يوم يفر المرء من أخيه} إلى آخر الآية.

 

أما العلم والعبادة فيقول تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان} إلي آخر الآية، وفي العبادة خاطب المؤمنين بأن يعتبروا محذرا لهم من اتباع أمثال عباد اليهود والنصارى الذي يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله يقول: {يا أيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}.

 

ونظرا إلى أن كل غير المعصوم يؤخذ من كلامه ويرد، فإن من نظر إلى حجج هؤلاء أصحاب الدولة المدنية، والمقاصد الشرعية في ثوب مقاصد بشرية يدرك أنه لا يرى هذا المقصد نافعا له بعد الموت، والدنيا وإن كانت زمنا طويلا في الظاهر فكل أحد قطعت له فيها أيام قليلة ليحاسب فيها على فكره وقوله وفعله حساب من لا تخفى عليه خافية.

 

فأول حجة لهم غير مستورة العورة هي قولهم إن الديمقراطية شكلا وليست ماهية بمعنى أن الشكل صالح لأن يوصف به كل شيء، مع أن التشريع الإسلامي ماهية قطعا ومصدره العقيدة الراسخة بأن الله لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

 

وبذلك يكون اعتماد الديمقراطية لتسيير حياة الإنسان الإسلامي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافة حلت محل العقيدة التي هي الصلة بين العبد وربه، وبناء على ذلك فإني أقدم هذا التساؤل:

 

هل قيادة المسلمين الشاملة لرعاية حياتهم فيما بينهم وبين الله وما بين بعضهم والبعض من حفظ الأرواح والممتلكات والعرض تركها الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم ليتولاها أعداء الإسلام أو يتولوا سياستها بما فيها كيفية نظام الحكم وتفصيل الحلال من الحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع ميادين الحياة بلا استثناء؟

 

فهؤلاء المفكرين الجدد هداهم الله بفضله على التمسك بأن الدين الإسلامي عبادة ومعاملة في كل ما يخطر على البال في أي شأن يتحرك فيه المسلم يقول تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه} إلى آخر الآية.

 

ولكن الله لم يوفقهم بعدله عن الرضى بكل تشريع وكل حقوق وكل حرية صادرة عن الديمقراطية التي يعرفون بأنها هي نفسها صادرة عن أعداء الدين بل هي نبتة هربت من الدين، وإن كان ذلك الدين لا يعني الإسلام وكثير من أقواله وأفعاله محرف لا يرضاه الإسلام، ولكن ذلك لا ينتج عنه فصل الحياة في الإسلام بين عبادته ومعاملته إلى آخره.

 

فهل قوله تعالى: {ووضع الكتاب} إلى قوله تعالى: {ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} تركت تشريعا يتعلق بالمسلمين يتحول تطبيقه إلى أعدائهم؟

 

الإجابة إن شاء الله في الحلقة القادمة: كيف نفهم الإسلام (19) الديمقراطية (5)