أرجو أن تكون هذه الحلقة هي الأخيرة من سلسلة نظر المسلم إلى العمل بالديمقراطية كبديل لنظام الإسلام.
هذه الفكرة بهذا التعبير وإن كانت محرفة قليلا بكلمة بديل عن ما يفهم من كلام المفكرين الإسلاميين الجدد – فإن ما سطروه في كتبهم وما يقولونه في خطبهم وما يفهمه أتباعهم – لا يفهم منه إلا أن ما نحن عليه الآن من الحياة بنظام الديمقراطية من نوع انتخابات جميع أجهزتنا ورجوعنا في التحاكم بيننا إلى الدستور الذي كتبناه بأيدينا كما تكتب دساتير الديمقراطية بمعني أن الشعب بجميع بياضه وسواده يصوت على إقراره حكما بين المسلمين.
وكذلك انتخابنا لنوابنا على شكل لوائح الأحزاب والملزم لكل شخص أن يقترع على مرشح حزبه إلى آخر ما نعرف جميعا من لقائنا لربنا مباشرة بعد موتنا ونحن متلبسين بهذا الفعل واعتقاد نيابته عن نظام الإسلام فعلا، علما بأن هذا الاعتقاد لا بد أن يتبعه تطبيقه بالفعل والقول والتسليم لنتائج حكمه.
فمثلا الرئيس المسلم ملزم بإتباع سلوك الرؤساء غير المسلمين في جميع الطقوس من تعظيم غير المعظم بجميع أدوات التعظيم – وهنا سيسمع من ربه هذا التوبيخ: {تالله لتسألن عن ما كنتم تفترون}، فهو هنا شريك لزملائه غير المسلمين في افتراء التعظيم – حتى ولو كان عزل في قلبه هذا التعظيم متكلا أن الله عليم بذات الصدور، فقوله تعالى في المنافقين: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون}، فالنية المخالفة للقول المخالف لأوامر الله إرضاء للبشر هو النفاق بعينه.
وكذلك فالحكم بعد انتخابنا أصبح للشعب ويكتب النص هكذا باسم الشعب حكمت المحكمة بكذا، والله يقول: {إن الحكم إلا لله} ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم والخطاب لأمته: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} فهل فعل الأمر من الله يقتضي غير الوجوب؟
والنواب أصبحوا هم المشرعين، إما المشرعون أصلا أو مصوتون على التشريع والله يقول: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ويقول: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} إلى آخر الآية، حتى أنه في بعض الدول الإسلامية يكون بعض النواب غير مسلم.
ومن أعظم ما يلاحظ على هؤلاء المفكرين الجدد – أنه من جهة يقولون إن الدولة المدنية يمكنها أن تجعل القواعد الفقهية التي استنبطها العلماء من كلام الله وكلام وفعل النبي صلي الله عليه وسلم ركنا يأوي إليه المسلم الديمقراطي للنجاة في الآخرة مثل: (دين الله يسر) و(الضرورة تبيح المحرم وتقدر بقدرها) و(أينما كانت المصلحة فثم شرع الله) و(من قلد عالما سلم) إلى آخره.
ودور هؤلاء المفكرين هنا مع الأسف يوضحه المثل الموريتاني: حفرة الأعمى يحفر ليتفل ولكن يتفل خارج الحفرة ويحثي التراب بعيدا عن التفلة والحفرة.
فهذه القواعد يذكرها علماء المسلمين عندما يجدون استعمالها يخفف حكم أًصل النص بالنص على القاعدة إن حصل سببها، فالله بعد تحريمه لأِشياء رفعه بقوله: {إلا ما اضطررتم إليه}، وهكذا في جميع القواعد الشرعية وكذلك جميع مسالك القياس، ولكن رفق الله بالإنسان هذا منصوص عكسه في الديمقراطية.
فالدستور لا يمكن تغييره، فمثلا إذا كانت المصلحة في ترك الرئيس رئيسا لصلاحيته للرئاسة بجميع أنواع إصلاحها ولكن مأموريتيه أنهاهما فلا يمكن تركه رئيسا.
كما أن القوانين المعمول بها في الدولة مقيدة بقول القانون: لا عقوبة إلا بنص، بمعني أن المصالح المرسلة التي يريدها العلماء المفكرون الجدد قاسما مشتركا بين النظام الإسلامي والديمقراطية لا يتركها هذا النص أن تبحث عن المصلحة العامة، فالمحامي ولو غير المسلم له كلمة في الحكم إذا لم يرضه، فيطلب استئنافه.
أما في غير الرئاسة والنواب فعلينا أن ننظر إلى اعتقاد السواد الأعظم من الناس الذي يسمي نفسه مسلما فترى الأعياد أكثر من أعياد المسلمين، والأفعال التي أخبر الله أنها ستعرض عليه جميعا تفعلها الدولة كأن ما يتعلق بها ينتهي بنهاية الغرض منها يقول تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
فالدولة تعمل أشياء بلا شعور وكأنها لا تسأل عنها غدا، ومنها توشيح الأموات بالميداليات وهذا مثال فقط ولكنه كثير في تصرفات الدول المسلمة.
ومعلوم أن الإنسان من ساعة موته إلى أن يخرج على الملأ يوم القيامة وهو مسرور ينادي عليهم بقوله: {هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه} فهو نفسه الذي كان يظن أنه سيلقي حسابا عسيرا.
وفي آية أخرى: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقينا عذاب السموم}، فالمسؤول هنا عن هذا الفعل الأحياء إلى حين يدعو الإنسان الآخر ثبورا ويصلي سعير إنه كان في أهله مسرورا.
ونقول لهؤلاء المفكرين الجدد إنهم يدركون أن كل نداء في القرآن للمؤمنين يترتب عليه أمر ونهي كما قال أحد الصحابة رضي الله عنهم: إذا سمعت نداء: (يا أيها الذين ءامنوا) فألق لها سمعك فهو إما خير تؤمر به أو شر تنهي عنه فمثلا عندما يقول: {يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} وأختها الأخرى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} إلى آخر الآية، فإلصاق القوامة الأولى بلام اختصاصها بالله في جميع الآيات فماذا يقول فيه المفكرون في ديمقراطية الغرب التي فصل فيها الدين عن الدولة.
ومعلوم أن سبب ظهور ديمقراطية الغرب هو هروب الإنسان الأوربي من تقييد دينه له كما هي حصيلة ما نتج عن الثورة الفرنسية، ودينهم هذا وإن كان محرفا عندنا نحن المسلمين كما أخبرنا القرآن بذلك فإن كتبه المشهورة التوراة والإنجيل وقد قال الله إنه أنزل فيهما نورا مبينا، يقول تعالي في شأن التوراة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} ويقول في شأن الإنجيل: {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور}.
هذه الكتب التي فيها هدى ونور إذا كان النبي صلي الله عليه وسلم تغير وجهه عندما رأى عمر بن الخطاب يقرأ صفحة منها قائلا له ما معناه: إنه لو كان المنزل عليهم أحياء ما وسعهم إلا اتباعي فكيف بديمقراطية أكثر أهلها ملحدون، فهذا القرآن الذي جاء هو به والذي قال فيه المولى عز وجل: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} إلى آخر الآية فاتباعه هو المرجع الوحيد للمسلم فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا.
فكيف يتبع المسلم نظاما دنيويا جميع فكره وقوله وفعله لا ينتظر صاحبه فيه الجزاء ولا يخاف العقاب في الآخرة؟ فهذه الحقيقة وهي هذا الاعتقاد المصاحب للفكر والقول والفعل أين العروة الوثقي التي تقرن بين الديمقراطية والإسلام عند هؤلاء العلماء المفكرين الجدد؟ فالذي يهم الإسلام هو النوع المبين فيه لا الكم المدعيه.
وملخص نيابة نظام الديمقراطية عن نظام الإسلام لعوامل مشتركة بينهما محذوف منها طبعا عقيدة الجزاء يوم القيامة كما يقول العلماء المفكرون الجدد مثل اشتراك البهائم مع عالم الخير في الدنيا في كلمة الحيوان.
يقول تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} ويقول: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ويقول: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين}.