الحرب القائمة حاليا في أوكرانيا هي إذا مجرد منعطف جديد في صراع قديم متجدد بين الشرق والغرب ما فتئت عوامله تتراكم وتتفاعل تحت الرماد منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وظهر الخلاف بين الحلفاء المنتصرين حول اقتسام الغنائم العالمية، وحول قواعد تسيير العلاقات الدولية بالخصوص.
فكل مؤتمرات العالم - بدءا من لندن 1941 ومرورا بطهران ويالطا وبوتسدام (اللذين غيب عنهما الجنرال ديكول عنوة)، ووصولا إلى مؤتمرات دمبرتون أوكس وسان فرانسيسكو 1945- المؤسسة لنظام الأمم المتحدة عجزت كلها، في واقع الأمر، عن إنشاء نظام عالمي للأمن كفيل بحل مشاكل المنازعات الدولية بشكل عادل قابل للاستمرار.
فبالرغم من حسن الصياغة اللفظية لديباجة ميثاق الأمم المتحدة فإن مضمون النصوص أبقى عمليا على نفس النواقص التي عصفت بعصبة الأمم: كالعجز عن إدانة اعتداءات الدول القوية، وشكلية الاختصاصات الممنوحة للأمين العام للمنظمة، وعدم فاعلية الأجهزة في تنفيذ المهام الموكلة إليها باستقلالية عن نفوذ الدول الأعضاء القوية، وغياب الديمقراطية في نظام التصويت، الذى أبقى جميع القرارات المصيرية (الموضوعية) بيد خمسة دول فقط، تستطيع كل واحدة منها منفردة أن تلغي وحدها جميع ما اتفقت عليه بقية دول العالم التي يناهز عددها اليوم المائتان، وذلك بمجرد استخدام تلك الدولة منفردة حق النقض (الفيتو)، كما أظهره الاستخدام المتكرر للولايات المتحدة لهذا الحق لنقض القرارات الأممية الهادفة لإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المختلفة، وفى مناسبات أخرى عديدة وكما فعلت روسيا بدورها في مناسبات عديدة كانت آخرها القضية الأوكرانية الحالية.
ولولا كوابيس ذكريات الحربين العالميتين، وتوازن الرعب الناتج عن امتلاك كلا الطرفين في الغرب والشرق لوسائل التدمير الشامل، لكان العالم قد هجر تلك المنظمة وذلك الميثاق منذ أمد بعيد.
ودون التفصيل الممل لنصوص ذلك الميثاق للبرهنة على هذه الحقيقة، فإن ميثاق الأمم المتحدة الحالي - وعلى عكس ما قد يتصوره البعض - إنما جاء في الواقع لتكريس حقيقة مرة طالما حكمت العالم الفعلي للعلاقات الدولية، ولكن العالم ظل يستحى من تقنينها في العلن، فجاء هذا الميثاق ليتحدى ذلك الاحتشام العالمي، ويقر هذه القاعدة كقانون، وذلك بتبنيه لقاعدة حق النقض ، واختصاص مجلس الأمن وحده بحفظ السلم والأمن الدوليين، وإقراره بذلك جوائز وامتيازات خاصة لتلك الدول القوية للمحافظة على ما حققته من انتصارات من أجل ضمان استمرار علويتها وفوقيتها أبدا على سائر بقية بلدان العالم.
غير أن إقرار ذلك الميثاق لمبدأ علوية قانون القوة على حساب قوة القانون، وتراتب أهمية الدول تبعا لقوتها، هو بالذات ما جعل النظام الدولي الذى أقره ذلك الميثاق يحمل في طياته هو نفسه عوامل اندثاره، كلما تغيرت موازين القوة بين الدول، وهو ما يبدو أننا بصدد وقوعه الآن.
يتبع