على مدار الساعة

همسات في آذان التواصُلِيِّين!

24 مارس, 2022 - 18:24
الشيخ عبد الله عبد الرحمن / طالب: في مرحلة الدكتوراه

-لكنها همسات تشبه طريقة الشاعر محمد ولد الطالب في البَوْح، فقد قال له الدكتور صلاح فضل يوما: "الناس يبوحون همسا، وأنت تبوح من فوق مِئذنة-!

 

قرأت مقالا لأحد الإخوة المهتمين، بل المحزونين من حركة المغادرة والتلويح في حزب تواصل؛ لأنه ربما يرى ذلك نوع خِذْلان للمشروع الإصلاحي الإسلامي -وهذا أمر يستحق الأسف- لكن علاجه بأسلوب الطبيب الماهر المجرب مذكور في القرآن الكريم، فلنقرأ تلك الصورة الكاملة للتشخيص القرآني المتضمن للعلاج كما عرضتها سورة آل عمران تعقيبا على إحدى حالات التعثر في صفوف العاملين للإسلام، حيث نجد التركيز على إعادة الطُّمأنينة وإلقاء أسباب الثبات في قلوب المتعثرين، وذلك بتصحيح التصورات، والإرشاد إلى البعد عن الاعتداد الزائد بالطاقات، هذا بالإضافة إلى تخفيف الشعور بخطورة الأعراض بذكر حالات التغلب عليها وتجاوزها بسلام، ثم تصل طريقة التشخيص والعلاج القرآني بعد ذلك إلى تشخيص الحالة المعروضة بذكر أسبابها بتفصيل يشمل الإرشاد إلى تناول الدواء والكف عن أسباب التعثر والشكوى.

 

أما إعادة الطُّمأنينة والثبات، فذلك بالتذكير بالسنن الإلهية الماضية، بما لها من حكم متعددة، كما قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ...} [آل عمران: 136-139]، فالسنن لا تحابي أحدا، وإن اشتعل رأسه شيبا، ووهن العظم منه أو كاد، وبلغ من الكبر عِتِيا، فكل ذلك لا يُعْفيه من سنة التمحيص التي يعد تجاوزها بنجاح مؤهلا لا غنى عنه للمرحلة المقبلة، فجهاد الكلمة ونحوها شبيه بجهاد الفعل من حيث المؤهلات، فيحتاج من التمحيص ما يصحح التصورات، ويكشف مدى التطابق بين الاستعداد القولي والأداء الفعلي بين حملة المشروع الإسلامي، هذا بالإضافة قياس مستوى الإيمان بالأهداف بصرف النظر عن وجود أو غياب الأشخاص، فهذه المعاني نجدها في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 142-143]، فالذين يظنون استحقاق التأهل التلقائي إلى المرحلة المقبلة سواء كانت هي الجزاء أو التمكين -فهو نوع من الجزاء العاجل- فهؤلاء يحتاجون إلى تصحيح تصور، والذي يبالغ في الاعتداد بصحته القلبية وثباته، فيعلن استعداده للعمل حتى في الحالة التي يواجه فيها أسباب الموت عِيانا، عليه أن يدرك أن الخبر يختلف عن المعاينة غالبا، أو تختلف حالة استعداد النفس في مرحلة القول عنها في مرحلة العمل في حالات كثيرة؛ لذلك يلزم الحذر للمحافظة على مطابقة الأقوال للأفعال. وتستطرد الآيات التنبيه إلى ما يضمن استمرار العمل لأجل تحقيق الأهداف، وذلك بأن يكون ذلك العمل دائبا لا يتأثر بغياب بعض الأشخاص مهما كان دورهم بارزا، وبلاؤهم عظيما، بل حتى لو كان المشروع الإسلامي غير مستغن عن وجودهم في مرحلة من المراحل، فهذا لا يعني توقف المشروع عند غيابهم في مرحلة أخرى، قال تعالى:  {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144-145]، وإذا كان الأمر كذلك فتخلُّف بعض الأفراد عن المشاركة في حمل المشروع الإصلاحي الإسلامي في بعض المراحل ينبغي ألاَّ يستغرب، فلكل مرحلة رجالها ومؤهلاتها اللازمة، وامتلاك المؤهلات في مرحلة من المراحل لا يستلزم امتلاكها في المرحلة التالية، فقد قص علينا القرآن قصة جنود طالوت، قال تعالى: "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ" [البقرة:249]، فقد امتلك قليل منهم مؤهلات اجتياز مرحلة النهر، لكنهم لم يملكوا المؤهلات اللازمة للمرحلة التالية، بل أعلنوا العجز عنها، وهذه الصراحة أنفع لرفقاء الدرب، وأقرب للنصح من التلويح واستعمال اللحن من القول أو الفعل.!

 

ثم تنتقل الآيات إلى أسلوب آخر لجلب الطمأنينة والثبات، وهو التمثيل بجماعات واجهوا من وسائل التمحيص أسبابا مماثلة لما واجهه المتعثرون، فثبتوا وصبرا حتى نالوا الثواب العاجل والآجل، قال تعالى: {وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ... -إلى قوله تعالى- فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146-148].

 

هذه المقدمة والتوطئة لتشخيص الحالة المعروضة يستفاد منها أن أسباب التعثر من السنن الإلهية التي لا يمكن دفعها ولا تجنبها، لكن يمكن الصمود في وجهها والنهوض بعد الوقوع في فَخِّها، إذا وجدت اللياقة القلبية التي تقي -بإذن الله- من الإصابة بفيروس (الوهن) والأعراض المصاحبة له كالحزن والاستكانة؛ لذا نجد الآيات في مقام الحديث عن المصابين بفيروس (الوهن) تُذَكِّر بالمضاد القلبي -وهو الإيمان- على سبيل الإرشاد إلى التَّفعيل؛ ليقاوم المضاد القلبي (الإيمان) الفيروس القلبي (الوهن)، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فالوهن هنا كما قال ابن عاشور: "مجاز في خَوَر العزيمة، وضعف الإرادة، وانقلاب الرجاء يأسا، والشجاعة جبنا، واليقين شكا؛ ولذلك نهوا عنه" [التحرير والتنوير: 4/98].

 

أما الآيات المتعلقة بالفريق السليم من فيروس (الوهن) فقد تضمنت الثناء على هذا الفريق بتلك اللياقة العالية التي كانت سببا في الوقاية من الوهن وأعراضه، قال تعالى: {وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

 

بعد تلك التوطئة الشبيهة بتهيئة الطبيب الماهر لنفسية المريض؛ كي يسهل عليه تقبل المصارحة بتفاصيل مشكلته الصحية -والمتعثر في ميدان العمل شبيه بالمريض- انتقلت الآيات إلى تشخيص الحالة المعروضة بشكل مباشر، فقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ....} [آل عمران: 152]. صرحت الآيات بأن سبب الاعتلال والتعثر راجع إلى التساهل في الاحتياطات الصحية، فكانت النتيجة وجود فرصة لتسلل فيروس (الوهن) إلى القلوب؛ لتظهر الأعراض المتعددة: كالفشل (أي الضعف) والإخلال بالانضباط الذي هو التنازع، ثم تطور الأمر إلى عصيان القائد وإن بتأويل، فحالة الحرب أو المواجهة الفكرية لا تَتَحَمَّل ذلك. هنا يتطلب الأمر زيادة توعية وإيضاح، وذلك بالتعريف بالبيئة والظروف التي ينشأ فيها فيروس (الوهن) ويتكاثر، وهذا ما نبهت عليه الآيات بقوله تعالى في الآية السابقة: {... مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ....}، فمن الظروف التي يحدث فيها التساهل بالإجراءات الصحية: وقت حصول المرغوب، أو ظهوره وقرب نيله، فتنشغل النفس بذلك وتعتريها العجلة، فيحدث الميل غير الصحي، وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: {... مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ... }، ومعنى كون هذا الميل غير صحي توضحه الآثار التي تربت عليه، من ضعف عزيمة وتنازع وعصيان؛ إذ لو خلت إرادة الدنيا والميل إليها من هذه الآثار ونحوها لكانت مأذونا فيها بل مطلوبة، كما قال تعالى في مقام آخر: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.... } [البقرة:198].

 

وقد تفطن بعض الصحابة للخطورة الكامنة وراء حصول المرغوب أو ظهوره وقرب نيله، فقد قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر" [حلية الأولياء: 1/100]، كما استغرب بعض الصحابة وجود هذا الميل غير الصحي إلى الدنيا بين ذلك الجيل من الصحابة، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كنت أظن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أحدًا يريد الدنيا، حتى قال الله ما قال". [تفسير الطبري:7/295].

 

بهذا يكتمل جزء كبير من التشخيص القرآني المتضمن للعلاج، فحسبنا أن نلقي السمع في حضور قلب، مستصحبين الإرادة؛ لاستخلاص العبر وأخذ الدروس.!