﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى. صحيح البخاري. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما. صحيح سنن النسائي للألباني.
لاشك أن أهداف بطانة السوء تتنوع و تتشعب كلما تغلغلوا في جسم السلطة بدء بحجب الناس عن المسؤول أو الحاكم ولي أمرهم و مدبر شأنهم، إلى غاية تقوية نفوذهم ليصبحوا أصحاب الأمر والنهي حتى لا يعرف المسئول غيرهَم لتنتقل أوامرُه فيبلغُوها إلى بقية المرؤوسين و كأنهم من أصدرها. و هي البطانة التي سرعان ما تتحول إلى مرحلة استغلال هذا القرب من المسؤول و العلاقة به لتحقيق المكاسب الخاصة، يلهثون وراءه لانتزاع توقيعاته السيزامية بالموافقة على تولي المهام الجسام و الأسفار و تنظيم الاجتماعات و المقابلات و إبداء الرأي في كبرى القضايا و المعضلات، ليجمعوا من ورائها من الأموال التي ما كانوا ليحلموا بجمعها في حياتهم بعيدا عن ذلك المسئول أو الحاكم.
لهذا فإن بطانة السوء هذه لا تطيق أن ترى أحدا غيرها في القرب من المسئول أو الحاكم و تحرص بكل ما أوتيت من خبث على أن لا يدخل أي فرد إليه - إذا أبدى كفاءة ما - في ظنها المرضي أنها ستُحرم من مكانتها، و من نعيم الامتياز الذي تعيش فيه.
وبالطيع فقد ظلت بطانة السوء، من حول المسؤولين و الحكام في هذه البلاد منذ الاستقلال، السببَ الرئيس في سقوط كل الحكام المدنيين والعسكريين حيث أن عقلية النفاق و الغدر كانتا و ما زالتا تشكلان لازمتين تين قويتين داخل المنظومة التعاملية الاجتماعية و تحديدا في شق مسلك التعامل فيها يجسدها مثل "ليد ال ما صبت تكطع حبها" المتداول و المقبول و الذي يجري التعامل به علنا.
و منذ الوهلة الأولى تقاسمت "البطانات" التي تعاقبت المحاور الثلاثة التالية:
- محور الإعلام الرسمي و قد ظل يجمع، حول الحكام الذين تعاقبوا، باستثناء قلة من المصطفين أصحاب الضمائر الحية، أولي الجرأة الزائدة على التجرد من قيم الكرامة الشخصية و أصحاب التحلل من الإباء و ماء الوجه، و أهل سرعة التكيف مع "اللغة الخشبية" و استيعاب و حفظ مفرداتها "الممجدة" للحاكم و "الساخطة" على غيره، فتولوا إدارات الإذاعات و الوكالات و الصحف الإخبارية الرسمية أو الموالية و لاحقا المحطات الإذاعية و التلفزيونية.. كلما نضجت جلودهم التي لا تحس استبدلت بجلود غيرها لا ماء لوجوهها. و قليلون منهم الذين استُبدلوا بآخرين لإبدائهم ذرة من الكرامة أو أبقوا لأنفسهم حيزا من المناورة الشريفة.
- محور "الثقاة"، من المستشارين و المنظرين و المخططين وأهل الخبرة الذين لم تغب عنه يوما الزبونية، و القبلية، و العشائرية و روح التحالف النفعي الذي يجافي الاستقامة ويقهر كل منطق. هؤلاء يجعلون المسئول أو الحاكم يضمن بهم استمراره في كرسيه، حتى ولو لم يؤدِ المهام المنوط به أداؤها فيكون استمراره في منصبه محل شك كبير، ولذلك يفضل الكثير من المسئولين و الحكام إحاطة أنفسهم بحاشية من أهل الثقة، لضمان بقائهم واستمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة البلاد أو العباد. فالمصلحة الشخصية عندهم أهم من أي شيء آخر. و هؤلاء لا يمكن حصرهم أو سد الباب أمامهم لقوة حضورهم بمنطق الاختلالات التي لا تتم تسويتها إلا بالقوة الظرفية لتعود بعد حين. و قد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن التين قوله، إنه " ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر، وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا "، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك.
- محور القرابة الذي شكل دوما، في عديد تجارب الحكم بهذه البلاد ـ القبلية العشائرية الطبقية - بامتياز، بداية الضعف والتفسّخ اللذين سرعان ما دبّا في الأنظمة المتعاقبة و عجلا نهايتهم بعدما استفحلا و بلغ السيل الزبى؛ و لم تكن تنشأ و تتفشي ظاهرة الانحراف والسقوط عند المسؤول أو الحاكم إلا عندما يجيز لذويه و أسرته الدخول إلى "عرصة السياسة" والاقتراب من أجهزة الحكم و التسيير ثم إسناد الوظائف الحكومية والمناصب العالية في الدولة لهم، وخصّهم بها أو الذين يختارون دون غيرهم ممن يمتلك الكفاءة والمقدرة الإدارية على الاضطلاع بالمسؤولية و تحمّلها، مما يقود إلى استيلائهم - في المراحل الموالية - على مقاليد الحكم، وانفرادهم بالسيطرة على مقدّرات الأمة، والأخذ بزمام الأمور حتى يجرّدوا الحاكم من أية قدرة وإرادة في مواجهة الأحداث أو التغلّب عليها و ليحوّلوه إلى لعبة يتراماها أفرادها و معهم بطاناتهم الطفيلية الانتهازية، يملون عليه رغباتهم، فيعزلون وينصبون من يشاءون، ويعطون ويمنعون من يشاءون، و قد أصبح في ذلك خاضعا لهم لا يملك سوى الرضوخ والتسليم.