ما يشهده العالم حاليا في أوكرانيا هو إذا حرب عالمية ثالثة، ولكن إدارتها تتم فعلا بتقنيات وأفكار ومخططات وأساليب الحرب في القرن الواحد والعشرين التي تلعب فيها الحروب الإعلامية، والاقتصادية، والمخابرات، والأقمار الصناعية، الدور الأبرز، قبل المواجهات العسكرية التي تأتي فقط للتمسك بالأرض تكريسا لما أسفرت عنه نتائج تلك المراحل المتقدمة الأخرى من الحرب التي قد يطول احتدامها قبل أن تدرك الدول الأخرى من غير الأطراف المباشرة فيها بأنها قد بلغت مرحلة الذروة.
فالاصطدام العسكري - وخاصة بين الجيوش القوية - أصبح يمثل في الواقع بداية العد التنازلي نحو نهاية الحرب، وترتيب آثارها المباشرة على الأرض، وهو ما أجزم أننا بصدد وقوعه الآن فى هذه الحرب الأوكرانية التي أعتبرها عالمية، بحكم تعدد الدول المشاركة فيها فعليا، والاستقطاب في المواقف الذى تجاوز هذه المرة حدود الحياد القانوني والسياسي التقليدي حتى لأكثر الدول تشبثا بمواقف الحياد خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وترتيبا على ما تقدم، فإنني أجزم بأن خارطة جيوسياسية للعالم هي الآن قيد التشكل، ومن شأن استكمال تشكلها - الذى قد يطول - الانسلاخ التدريجي من النظام العالمي الذى أرساه ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقيات "بريتون اودز"، لصالح الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة، واستبداله بنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، أصبح لزاما عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الصعود المتنامي لقوى عالمية جديدة على رأسها الصين التي ستبقى صاحبة الكلمة الفصل في حسم الحرب الحالية، والمستفيد الأول من حيثياتها وما ستؤول إليه، ولكن دون إغفال استفادة دول أخرى من الوضع الجديد، مثل ألمانيا التي ستتحرر بفضل الوضع العالمي الجديد من قيود التسلح التي ظلت مفروضة عليها حتى الآن مع كل ما قد يترتب على ذلك من إعادة تأسيس - بمعية فرنسا - لقوة عسكرية مركزية للقارة العجوز، قد يجعل منها أساسا لقطب جديد مستقل، أو بالتنسيق مع آخرين.
كما أن من شأن التعددية القطبية المنتظرة حل قضية فلسطين بغياب الحماية الأمريكية لإسرائيل التي ظلت حتى الآن حائلا أمام حل فعلي للقضية الفلسطينية، لأن النووي الإسرائلي لن يكون وحده كافيا لحماية الإسرائيليين من الهجمات الفلسطينية الداخلية، وإرادتهم في الانعتاق، خصوصا مع تزايدهم السكاني.
أما بالنسبة لنا في موريتانيا، فستمثل التعددية القطبية فرصة استثنائية جديدة ، لإعادة تثمين علاقاتنا بمختلف الأقطاب من أجل الاستغلال الأمثل للصراع بينهم وإعادة التموقع في علاقاتنا معهم بما يضمن اقصى درجات الاستفادة على مختلف الصعد العسكرية والاقتصادية، وهو ما يترتب عليه بالضرورة عدم التسرع في الاصطفاف، والممانعة المرنة عن التخندق - خلافا لبعض مواقفنا حتى الآن في التصويت في هذه الأزمة - حفاظا على مصلحتنا العليا في التعاطي والاستفادة من مختلف الأطراف.