تستعد بلادنا حاليا لإطلاق حوار أو تشاور سياسي بين قطبي المولاة والمعارضة بهدف تحقيق إصلاح سياسي يلبي مطالب كلا الفريقين، ولا يخفي على أحد بأن الحوار سيركز على آليات إدارة الاستحقاق الانتخابي القادم، بينما قد يتناول مواضيع أخرى بصورة شكلية للإرضاء والتجميل لزيادة القبول، هذا ما تؤكده تجارب الماضي وإرهاصات الحاضر.
هل نحن بحاجة للحوار أو التشاور أصلا؟
لا شك أن بلادنا تعيش أزمة تتجلي على كافة الأصعدة فالمؤشرات معظمها أحمر فمثلا:
- معظم المؤشرات تؤكد ضعف الحكامة وسوء تدبير الشأن العام؛
- ضبابية الرؤية فيما يتعلق بالهوية الوطنية واللغة الرسمية للمجتمع، فربما نكون البلد الوحيد في العالم الذي لم يحسم هذا الأمر؛
- ارتفاع مستويات التذمر لدي معظم شرائح المجتمع وارتفاع مستوى المطالبات الاجتماعية المتعلقة بالإرث الإنساني؛
- كل المؤشرات تؤكد وجود اختلالات اجتماعية وأخلاقية تعصف بالمجتمع، كارتفاع نسب الطلاق والجريمة وتنامي مظاهر الإسراف والهدر؛
- نستورد كل حاجياتنا تقريبا من الخارج ولا نصدر غير المواد الخام الناضبة، بينما الاستثناءات القليلة كالموارد البحرية ورؤوس الماشية فهي ليست أحسن حالا، وقد تستنزف هي الأخرى إذا تواصل سوء إدارتها؛
- يعاني نظامنا التعليمي من اختلالات جسيمة تظهر بشكل واضح من خلال العزوف عن النظام التعليمي العام ونسب الإخفاق وتدني مستوي المخرجات؛
- ضعف الخدمات الصحية، فكل المؤشرات تشير إلى الوضع الكارثي لنظامنا الصحي، مما انعكس سلبا على ثقة المواطن ودفع إلى مستويات غير مسبوقة من رحلات التداوي إلى دول الجوار؛
- ارتفاع مستوي البطالة بين الشباب والفشل في الاستفادة من العائد الديموغرافي.
هنالك توافق شبه تام بين طرفي المعارضة والمولاة وأغلب أطياف المجتمع على وجود أزمة مستفحلة تعيق تقدم البلد، لكن بالمقابل لا يوجد إجماع حول الأسباب المؤدية لها أو لسبل حلها، لذلك فمن الضروري حسب اعتقادي إجراء حوار شامل لوضع استراتيجية الخروج من النفق.
سمات الأزمة
لعل أهم سمات هذه الأزمة هو الشمولية، فهي تضرب كل القطاعات سواء كانت خدمية أو إنتاجية وسواء تعلق الأمر بالقطاع العام أو الخاص، وستسمع الشكوى من نفس الأعراض سوء كنت في قطاع الشؤون الإسلامية أو في قطاع الصحة أو التعليم أو الشباب والرياضة، وستلمس آثارها بشكل واضح على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ستجد أن السفارات والبعثات الدولية والزائرين والمستثمرين يتململون ويهمسون وستسمع نفس الآهات وستلاحظ ذات العبارات والحسرات؛ إنه باختصار نفس الهواء الملوث الذي يستنشقه كل ذي رئة.
يمكن بسهولة بعد إجراء غربلة للكلمات المفتاحية السائدة في مجال تشخيص الأزمة رصد أربعة معوقات مفتاحية تتكرر على السنة الجميع في كل الأوقات وفي كل الأماكن وعلى كل المستويات حيث ستسمع غالبا ما يلي:
- غياب الصرامة: هنالك تراخ على كافة المستويات فيما يتعلق بتطبيق القانون ابتداء من الدستور وحتى مقرر لمجلس بلدية ريفية، كما يشمل التراخي أيضا الخطط والاستراتيجيات والقرارات الإدارية وطرائق العمل.. الخ؛
- قلة الكفاءة: يمكن بسهولة رصد ضعف كفاءة أغلب مسيري الشأن العام فإما أنهم لا يملكون المؤهلات الكافية أو أنهم يخدمون في مواطن شغل لا تحتاج لمؤهلاتهم؛
- انعدام المسؤولية: تغيب المسؤولية بشكل جلي لدي العديد من المسؤولين حيث يمكن بسهولة رصد مؤشرات ذلك من خلال التقارير والقرارات التي تتخذ بشكل يفتقر للمسؤولية، وتترتب عليه أحيانا أضرار بالمليارات دون أن تسيل دمعة أو تجري محاسبة وإن أجريت غالبا ما تعجز عن تحديد مسؤول بعينه؛
- عدم احترام أو غياب طرائق العمل: لا توجد طرائق عمل أو بروتوكولات أو إرشادات أو ممارسات فضلى متفق عليها، يمكن الركون إليها، تسمح بضبط وتوجيه مسار العمل نحو الطريق الأمثل.
على ماذا سنتحاور؟
يتضح من خلال سمات الأزمة وأسبابها إنها ذات بعد سياسي، ويعود في الأساس إلى طبيعة إدارة الحكم، فبعد أن كان نظام الحكم يستند على الحزب الواحد لما قيل و1978 لقوة السلاح لمرحلة ما بين 1978 و1991، مما قلل من دائرة المطالبين بأثمان دعم الاستقرار السياسي، أصبح فجأة عام 1991 يعتمد على جيش جرار من داعمي الاستقرار السياسي، ستشكل مكافأتهم حجر عثرة أمام كل الجهود التنموية، وستؤرق كل من يجلس على كرسي الحكم، وتقيد جهوده، وتكتم أنفاسه، وتجبره على مراجعة طموحاته وحتى معجم ألفاظه.
إن الاستقرار السياسي اليوم منوط بدفع الحاكم لثمنه عدا ونقدا، لجيش الداعمين من خلال التعيينات في إدارات ومؤسسات الدولة والتغاضي عن أخطائهم وفسادهم وتقصيرهم، وبالتالي فمن الطبيعي أن يجد أي حاكم للبلد صعوبة في فرض الصرامة المطلوبة وسيضطر لتعين عديمي الكفاءة، ولن يكون بمقدوره الثبات على استراتيجية أو خطة أو مسار، ولن يكون من مصلحته تحديد المسؤوليات حتى يمكن لجيش الداعمين الإفلات من العقاب.
إن مسؤولية الوضع الحالي تقع على عاتق كل المجتمع وهو من عليه البحث عن نموذج سياسي بديل يحفظ مكاسبنا ويجنبنا للأزمات ويحقق التنمية والتطور والازدهار لبلدنا، ولن يحدث فرق ولن تتحقق نتائج ما دمنا نعتمد ذات النموذج.
الخاصرة الرخوة
قد نتساءل جميعا كيف استطاع البعض استهداف نظامنا السياسي وتكبيل قادتنا، وهنا أحيل إلى هذه الفقرة من مقال سابق بعنون تنمية الريف مفتاح التنمية السياسية: "يُعد الريف الخاصرة الرخوة التي يُستهدف منها المجتمع اليوم، لذلك فعلى القوى السياسية أن تدرك أن البناء الديمقراطي لن يكتمل ما دام التهميش يسود الريف، فلا تنمية شاملة بدون تنمية سياسية، ولا تنمية سياسية ما دام سكان الريف مغيبون عن المشهد السياسي." يعد الريف فعلا هو الخاصرة الرخوة وهو حجرة القبان أيضا، حيث تتم مصادرة قراره وبيعه في سوق النخاسة السياسية.
مكاسب ونقاط قوة
صحيح أن بلادنا تعاني من أزمة، لكنها بالمقابل تملك نقاط قوة ومكاسب يفترض أن يتم تثمينها للمحافظة عليها، فبلدنا مستقر ويملك جيشا قويا وله ممارسة ديموقراطية، كما أنه متقدم في مجال الحريات العامة وحرية الإعلام، وله علاقات ممتازة مع كافة جيرانه ويملك موارد طبيعية هامة، وموقعا استراتيجيا مميزا، وشعبنا متنوع الأعراق والثقافات.