واجه بعض كتابنا وأصحاب الرأي فينا قرار الدبلوماسية الموريتانية القاضي بقطع العلاقات مع دولة قطر الشقيقة، واجهوه بحملة انتقادات لاذعة، تقمص خلالها بعضهم دور الفقيه في العلاقات الدولية، ولم يتردد آخرون في الكلام وكأنهم تقاعدوا من السلك الدبلوماسي.
صفحات المواقع الإلكترونية المحلية شهدت موجة من التحامل وصلت حد نعت المسئولين عن القرار بنعوت من خارج قاموس الثقافة، ووصفهم بما لا يستقيم داخل حقول المطارحات الفكرية وتناول المقاربات السياسية.
وضع الشعب الموريتاني ثقته في الرئيس الحالي بعد انتخابات شفافة، وهو بالتالي يمثله ويصدر القرارات باسمه. الدستور والنصوص القانونية المعمول بها تخول رئيس الجمهورية اتخاذ إجراءات مصيرية وحاسمة، فكيف بمراجعة العلاقة مع دولة ما لا على التعيين. قديما توصل الإنسان لفكرة الانتظام خلف قيادة أو ربما جبل عليها، شأنه في ذلك شأن بقية المخلوقات من طيور وغيرها، كما نصت الشريعة الإسلامية على حاجة الإنسان في اجتماعه لرئاسة تقوم بأمره وتصريف شأنه.
تتخذ الدول القرارات على ضوء معطيات كثيرة يتم سبرها في فترات زمنية طويلة، معطيات بعضها معلوم يمكن للجميع التوصل به في حين تحتاج قراءته بشكل صحيح لمجتهدين ومستنبطين، وبعضها خفي تقوم أجهزة السلطة على جمعه وترتيبه ثم إحالته لأهل الخبرة والدراية، وعليه فإن القرارات التي قد نراها نحن أهل الظاهر خاطئة وغير مدروسة تبهرنا دائما في النهاية بكونها ناجعة، خلاصة القول "القرار توليفة تتم صياغتها في مختبرات السلطة" بما تحمل العبارة من معنى.
اليوم تشيد دول العالم بالمقاربة الموريتانية فيما يتعلق بالإرهاب، المقاربة التي يعد ضرب الإرهابيين في معاقلهم مسلمة للقول بها، رغم ذلك جوبهت عمليات الجيش الموريتاني آنذاك بكثير من التشويش، أطلقت عليها عناوين أبرزها "حرب بالوكالة" ليتبين اليوم أن التحرك الموريتاني كان ضرورة للجم أولئك الغلاة وتطويقهم في حيز جغرافي مكشوف، ما ساعد المجتمع الدولي على معالجة عناصر التطرف تلك فيما بعد.
وعند تولي ولد عبد العزيز رئاسة البلاد بدأت المزايدات في ملف السجين بغوانتنامو محمدو ولد صلاحي، اتهمت الدبلوماسية الموريتانية بالتقصير في سبيل إطلاق سراحه، وصورها كتابنا مستقيلة من مسؤولياتها اتجاه مواطن في كرب، لكن كوادر الدولة و على طليعتهم رجال العمل الدبلوماسي بذلوا جهودا جبارة لفك أسره، بعيدا عن الضجيج والاستهلاك الإعلامي الذي لا يقدم في مثل هذه الحالات، فقرت عيون أهل صلاحي ومحبي محمدو بين عشية وضحاها، وبهت من لم يستوعب طريقة الخارجية الموريتانية في تناول الملفات.
لعله من نافلة القول إن موريتانيا تقطع العلاقة بالنظام القطري لا الشعب، الذي نتقاسم وإياه الانتماء والولاء للأمة الإسلامية العربية، والروابط الثقافية والتاريخية والأصول المشتركة الضاربة في القدم، كلها عوامل تقف جاثمة في وجه القطيعة بين الشعبين الشقيقين. الخلافات السياسية واردة كل حين عندما تتباين الاجتهادات في معالجة القضايا، وسبق لموريتانيا أن قطعت علاقاتها مع دول عربية لا تقل شأنا عن الشقيقة قطر، لا من ناحية القواسم المشتركة أو المؤازرة في أيام المحن، فلعل الجميع يذكر جيدا بيانا مماثلا تعلق بالعراق، وطيلة حكم ولد الطايع بقيت العلاقات مع ليبيا إما مقطوعة أو تعيش فتورا، ما انسحب على الجارة السنغال أيضا.
موريتانيا بلد يعيش فترة انفتاح دبلوماسي واسع على دول العالم، ينشد التعايش مع الشعوب كافة، يأمل استقطاب مختلف الثقافات، والزيارات التي يؤديها كبار المسئولين وقادة العالم والإقليم لبلادنا خير دليل على رغبتنا تلك، وقد أشاد كل أولئك بجهود موريتانيا ومقاربتها في التصدي للإرهاب. بلادنا التي نالت شرف رئاسة الاتحاد الإفريقي ثم جامعة الدول العربية، لتستضيف القادة العرب تحت خيمة رحبة فسيحة ليست بقاطعة رحم، وتفسير ما ذهبت إليه هو: أن النظام الحاكم في الشقيقة قطر تجاوز الخطوط الحمراء، فلم تنفع معه القنوات السياسية والدبلوماسية التي طرق أشقاؤه بابها، وآثر المراهقة والطيش وحتى الشطح والشطط.
في السياسة أعراف تحكم العلاقات بين الدول، خاصة إذا كانت تلك الدول متجاورة وتربطها أواصر الأخوة والصداقة. عندما تنضوي بلدان تحت مظلة واحدة مشكلة منظومة تتقاسم داخلها التوجهات المشتركة وتتخذ القرارات الموحدة، تصبح ملزمة بالإذعان للمواثيق والمعاهدات ومطالبة بما هو أكثر من ذلك ورعا. وفي مجالنا العربي تأسست تلك الجامعة المباركة العريقة التي ستظل رغم كل التحديات خيارنا الاستراتيجي ومحل عقدنا، جامعة الدول العربية ومن تحت عباءتها مجلس التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي الأصل والفرع. لا ينبغي لبلد يرغب في التعايش مع جيرانه وأشقائه إيواء من أراد بهم سوء وتوجيه آلته الإعلامية نحوهم سعيا لإثارة الفتن والضغائن بين شعوبهم.
الدبلوماسية الموريتانية لم تتجن على الشعب في قرار قطع العلاقات مع قطر، بل كانت ترجمانا لمآخذه على الإخوة في النظام القطري، الذي يرى المواطن الموريتاني في إطلاقه العنان لقناة الجزيرة نيلا من أنظمة عربية شقيقة، والسعي جهارا نهارا لإثارة الفوضى ببلاد العرب. الجميع في موريتانيا أصبح واعيا حقيقة قطر، ونعني بالجميع المواطن في كل مراتبه ومشاربه، لا مجموعة من الكتاب وبعض السياسيين. الشعب الموريتاني في غالبيته يريد من قطر تغيير تلك الإستراتيجية التي يرى فيها مفسدة للبلاد والعباد، فكان لزاما على الدبلوماسية الموريتانية ترجمة مآخذه إلى مواقف، وهي بالفعل لسان حاله وترجمان آماله.