أنا وعثمان صديقان منذ نعومة أظافرنا، وزميلان جمعتنا مقاعد الدراسة منذ الطفولة، لكنه كان أذكى مني وأكثر قدرة على التحليل والاستشراف، ولذلك فقد تسرب من التعليم مبكرا لأواصل بعده مسيرة التيه التي قذفتني في دائرة التيه الحقيقي.. حقل "الصحافة" الذي يدور فيه المرء عشرات السنين دون أن يرى معالم على طرقه الملتوية والمتشعبة والشائكة، وسط زحام يزداد اختناقا كلما ازدادت أعداد التائهين عن حسن نية أو عن سبق إصرار وترصد.
صديقي وزميلي عثمان أصر على البقاء في الداخل، فكان المعماري الذي شيد غالبية دور وأعرشة مدينته الوادعة دون أن ينال لقب المهندس، لكنه ظل سعيدا بعمله، قانعا بحاله، ومستعيذا من حال كل من سولت له نفسه الانتقال من النعيم الذي يعيش فيه إلى شقاء العاصمة نواكشوط الصاخبة والوسخة والمكتظة بالبشر والدواب والسيارات والعربات والكلاب والقطط والباعوض ودخان القمامة.
مؤخرا، أدرك صديقي وزميلي عثمان أهمية الحصول على وثائق الحالة المدنية، وما ستفتحه أمامه من فرص الاستفادة من مساعدات الدولة التي تخصصها للفقراء عبر برامج متعددة ومتنوعة تمنح المساعدات النقدية والعينية وتقدم الضمان الصحي.
بالطبع.. الاستفادة من كل تلك الخدمات مرهونة باستظهار بطاقة التعريف الوطنية التي لم يسبق لصديقي وزميلي عثمان أن حملها منذ كانت توزع بالمجان خلال تسعينيات القرن الماضي، فتُعدُّ على عجل تحت ظلال الأشجار قبيل وأثناء مواسم الانتخابات، إلى أن أصبحت اليوم حكرا على نظام بيومتري حديث يفرض الشروط الصارمة للحصول عليها.
بمساعدة ذوي النوايا الحسنة تقدم صديقي وزميلي عثمان بملف الاحصاء وتم له ذلك، لكن انتظاره لاستلام بطاقة التعريف طال أكثر من اللازم، وهو يرى التحويلات النقدية والمساعدات العينية التي يستلمها جيرانه من حاملي البطاقة.
ضاق عثمان ذرعا من بطء إجراءات الإدارة (وللإشارة فعبارة بطء الإجراءات ستدخل قاموس عثمان لاحقا بعد أن سمعها من فِي رئيس الجمهورية ذات يوم عاصف أمام خريجي مدرسة الإدارة)، لكن صديقي لم يبد أي احتجاج ولم يظهر عليه أي انزعاج، فالدولة في نظره تفعل ما تشاء ولا أحد يستطيع مساءلتها عما تفعل.
لكن غضب الرئيس على حكومته وإدارته قلبا كل المُسلَّمات التي آمن بها عثمان من قبل، وشجعاه على الثورة على هدر كرامته وإضاعة حقوقه، فصرخ وهدد وتوعد متسلحا بخطاب الرئيس، وتهلل وجهه بشرا بقرار إقالة الحكومة التي يرى أنها منعته حقه كل هذه المدة الطويلة.. وخلال ساعات كانت بطاقة تعريف عثمان بين يديه، وكان اسمه ضمن لائحة ستستلم تحويلات نقدية ومساعدات عينية وبطاقة تأمين صحي.. كل ذلك لأن رئيس الجمهورية غاضب من روتين إدارته ومن معاناة شعبه.
هنيئا لصديقي وزميلي عثمان.. لقد كسبت جولة هامة في مسيرتك نحو سيادتك على مسؤولي دولتك الذين يتقاضون رواتبهم من أجل تلبية طلباتك وتسريع إجراءات الخدمات المقدمة لك وصون كرامتك.. هكذا أراد الرئيس وهكذا كان، لعثمان على الأقل.
أما أنا فقصتي تختلف كليا عن قصة عثمان.. ذلك أنني ضيعت اللحظة المناسبة التي اغتنمها هو فكان له ما أراد، ظنا مني أن غضب الرئيس وإقالة الحكومة كانا كافيين لأنال حقوقي، في حين فهم عثمان بفطرته البدوية الصقيلة أن الصوت العالي في وقته يوفر الكثير من الكلام ويجلب العديد من المنافع.
اعذروني.. فلن أسرد عليكم قصتي حتى تُؤتونِ موثقا من الله لَتَكتُمنَّه عن سيادة الرئيس، فلا يغضب من جديد ويطيح بحكومته الثالثة.
شخصيا لا أريد أن أكون السبب في تمديد الدورة البرلمانية الحالية لمنح الثقة لحكومة رابعة، فلديَّ صداقات عديدة مع برلمانيين لا أريد إحراجهم بمزيد من الصمت تحت قبة البرلمان، فهم بحاجة لاختتام الدورة الجارية سبيلا لترويض ألسنتهم على النطق بعيدا عن الجلسات الطويلة والمملة التي أقسموا على ألا يحضروها إلا وهم صم بكم عمي.
تلكم قصة أخرى، أما قصتي أنا، فلن أسردها عليكم مخافة أن تصل أسماع رئيس الجمهورية، فلا أريد لسيادته أن يغضب مرة ثانية، ولا لحكومته أن تقال مرة ثالثة، ولست أضمن أن تقوم المدرسة الوطنية للإدارة والقضاء والصحافة بتخريج دفعات جديدة قبل أن تُطوى قصتي في متاهات النسيان.
لن أقول لكم إن رئيس الجمهورية تعهد للصحافة ووفى بعهده.. منح قطعة أرضية لبناء دار للصحافة، ورصد مبلغا ماليا لشراء دار مؤقتة، لكنه لم يعلم أن المماطلة في الإجراءات وعدم صون كرامة مواطنيه الصحفيين قذفت بالقطعة الأرضية إلى خارج العاصمة، هنالك بعيدا عن أطراف المدينة، فما بالكم بمركزها.. ولم يعلم سيادته، كذلك، أن مبلغ شراء دار مؤقتة للصحافة، الذي أمر برصده كإجراء استعجالي، أصبح كرة تتقاذفها الميزانيات والميزانيات المعدلة، ويتم ترحيلها من سنة مالية إلى أخرى، والصحافة تتفرج دون أن تمتلك شجاعة صديقي وزميلي عثمان.
رجاء.. لا تبلغوا رئيس الجمهورية بذلك، فنحن لسنا طرفا في معركة لي الأذرع بين الرئيس وإدارته.