الأخبار (لعيون) - "جئت إلى هذه المنطقة في الخمسينات، لم يكن فيها أي شيء، قررت حينها أن أحييها، وأن أقيم فيها مشروعا زراعيا، ينفعني ويضمن لي دخلا، وينفع الناس من خلال إنتاجه، وما يوفره من مأوى للضيفان والمارة والجيران".
"كانت فكرة في البداية لكن أشهرا من العمل المتواصل كانت كفيلة بجعلي أرى أولى نتائجها، فقد بدأ الشجر يكبر، وبدأ النخل يطاول بعضه بعضا، كانت بشارة لي ما بعدها بشارة".
هكذا وصف التسعيني باك ولد احميده انطلاقة مشروعه الزراعي الذي تحول لاحقا إلى حي من الأحياء الفقيرة في مدينة العيون يسمى "حي لكنيبة".
علائق الذاكرة...
يتحدث باك عن بعض الشخصيات السياسية الشهيرة في تلك الفترة، أي السنوات الأخيرة قبل الاستقلال والسنوات الأولى بعده، فهو يتحدث عن الرئيس "دودو سك"، (ولد ابن المقداد)، والرئيس المختار ول داداه، وغيرهما من رموز تلك الفترة.
لم يكن باك حينها مهتما بالسياسة، ولا بشؤون الدولة، إذ هو في تلك الفترة ليس في حاجة لأي أحد بل الناس هم الذين في حاجة إليه ربما كان يتصور أنه أغنى من الدولة، فالمردود الكبير للمزرعة جعل تفكير باك في العطاء لا في الأخذ.
لم تكن الدولة الناشئة والأصغر –بالنسبة للميلاد على الأقل- من المشروع الزراعي لباك، لم تكن تعني له ولمعاصريه الكثير، فهي –في أحسن أحوالها- ورقة ملفوفة في أحد الأسفار، قد تمر السنوات دون أن تجد من يسأل عنها، لأنها أرادت أو أريد لها أن تنسحب من حياة الناس، وعجزت عن تقديم ما تقنعهم به من خدمات ووسائل حياة كريمة أنها موجودة.
منح المواطنة
بعد سنوات من العمل والإنتاج قرر باك ولد احميده أن يخرج من عالمه الخاص داخل "مملكته الصغيرة" ، فضرورات العمل فرضت عليه عزلة لفترة، لكن وفرة الإنتاج تسمح "بمنح المواطنة في الممكلة لشخص جديد على الأقل".
لم يطل بحث باك كثيرا فزوجة المستقبل لالة بنت عبد الرحمن كانت تتوفر فيها كل الشروط التي وضعها باك في من ستمنح لها "جنسية المملكة"، وفي جو من الاحتفال يليق بالعريسين الجديدين، تمت الاحتفالية، ودخلت بنت عبد الرحمن العالم الخاص للمكافح الذي لا يتعب باك ولد احميده.
تؤكد بنت عبد الرحمن –وهي تجلس بجانب باك بعد أن أقعدته الشيخوخة- أن أسرته لم تحتج لشيء طيلة قوة الوالد، فهو كان يقوم بكل شيء من حفر الآبار واستخراج الماء منها، ورعاية النخيل والأشجار المتنوعة في المزرعة، كنا نعيش في رفاه بسبب المردودية الكبيرة لهذه المزرعة".
"لكن –تضيف بنت عبد الرحمن- بعد سكتة يبدو أن شريط الذكريات فيها عاد بها بعيدا- عوادي الزمن لم تمهلنا، وكانت البداية عملية احتيال تعرضنا لها وسط الثمانينات، عندما جاءتنا بعثة ادعت أنها جاءت من الحكومة لمساعدتنا في مشروعنا الزراعي، وطلبت منا تقديم أوراق وأموال، وذهب الكل دون رجعة، لقد كان باك متخوفا منهم لكننا دفعناه للثقة بهم ظنا منا أن الدولة التي ننتمي إليها قررت أن تدارك جزء من حقوقها، لكن النهاية المأساوية للقضية أعادتنا إلى رشدنا وجعلتنا نواجه الحقيقة".
أما ثاني الكوارث –تضيف لالة- فهي نضوب الماء عن أكثر آبار المزرعة، وعجزنا عن حفر آبار جديدة، إضافة لضعف الحماية التي نقيمها على المزرعة، فهي اليوم تواجه تحدي نضوب الماء حولها، وضعف الحماية التقليدية المقامة عليها، عجزنا عن صيانتها، لقد وقع كل هذا بعد ضعف المعيل، ومنشئ المشروع باك ولد احميده".
وثالثتها كانت مصادرة جزء من أراضيه وتحطيم 12 خباء كان يقيمها فيها، فقد قامت شركة سوكوجيم بمصادرتها ولم تدفع عنها أي تعويض، كان ذلك في العام 2005، ومع ذلك لم تقم فيها أي مشروع ينفع الناس، ولم تردها لمالكيها لاستغلالها، فكأنها حبستها عن الانتفاع بها.
مطالب ملحة...
المسن باك ولد احميدة الذي احتاج لمساعدة قبل أن يستوي جالسا مقدما جملة من المطالب، مؤكدا أنه في الماضي لم يطلب من الدولة أي خدمة، وهي لم تقدمها له، لكنه اليوم يحتاج مساعدة منها تؤمن العيش الكريم لأسرته، فمزرعتهم بحاجة إلى سياج يحميها، وإلى ماء يسقيها، وإلى مساعدة من الدولة، "لقد عشنا فترة دون مساعدة منها، وأظن أنه آن الأوان بعد أن احتجنا لها أن نجد مساعدتها".
زوجته لالة بنت عبد الرحمن تجولت معنا في المزرعة التي كانت في يوم من الأيام أساس استقرار سكان الحي –كما تقول- توفر لهم ما يحتاجون، وتجود عليهم بما يبغون، لكن ضعف وشيخوخة صاحبها (85 سنة) جعلتها تتعرض للتلف بعد أن جف الماء وضاع السياج.
كانت بنت عبد الرحمن تتجول في المزرعة رفقة نساء وأطفال من حي لكنيبة جنوب لعيون حيث تقطن، وكأنها تستعيد مع كل خطوة خطوها ذكريات مرت معها خلال حياتها المشتركة مع في هذه الموقع الذي أقامت عليه أولى لبنات عشها الزوجي، ومأوى أبنائها فيما بعد.