الأخبار (نواكشوط) - كانت ذكرى عيد استقلال موريتانيا عام 1990 ذات طابع خاص بالنسبة للسجناء من العسكريين الزنوج في ثكنة "إينال" شمال البلاد. فوفق الروايات المتوفرة، لم يك الاحتفال، كما يحكي الناجون، إلا حفلة إعدام لموريتانيين عزل، عددهم 28، تم انتقاؤهم وإعدامهم شنقا في طقوس تنم عن إرادة التشفي، مع سبق الإصرار، أو على الأقل كما ترى المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان.
كان رقم 28، عدد من أعدموا شنقا، رقما أكثر من دال وفق المراقبين خاصة في تناصه مع ذكر الاستقلال (28 نوفمبر) وهو نفس التاريخ الذي جرى فيه إعدامهم لتولد علاقة رمزية بين الحدثين لا زالت تثير مطالب بإعلان عيد الاستقلال نفسه "يوما للحداد" وهو ما يرى فيه الكثيرون تحديا للمشاعر الوطنية.
أبرز المصادر المتوفرة عن "مجزرة إنال"، التي ظلت أحد المحظورات إلى وقت قريب، ما كتبه الضابط السابق في الجيش الموريتاني سي محمادو في كتابه "جحيم إنال: رعب المعسكرات في موريتانيا" (هارماتان، 2000). يرسم محمادو مراحل اختيار من سيتم إعدامهم وتعليمهم بأرقام خاصة قبل أن يشرع في قتلهم شنقا ابتداء من الساعة صفر من فجر 28 من نوفمبر سنة 90.
بدأت التحضيرات ظهيرة 27 نوفمبر حين تم انتقاء من سيتم إعدامهم من مختلف العنابر وتم تعليمهم بصلبان زرقاء رسمت بقلم أزرق غليظ. تم تعليمهم لاحقا، كما يشرح محمادو، بأرقام من "1" إلى "28" وهي مهمة تولاها العريف ولد دمبا بحضور بعض الضباط من بينهم المقدم سيدينا.
لائحة الإعدام
تساؤل أحد ضباط الصف المعتقلين، يحمل الرقم 11، عن السر في الإجراءات غير العادية لم يكن ليلقى ردا شافيا. اكتفى الرقيب أول جمال ولد اميليد، أحد السجانين، بالرد عليه بأنه "سيتم نقلهم إلى مكان آخر". طلب الرقيب جالو سيلي بي من جمال أن يظل مع جنود البحرية، فقد كان ممرضا معروفا في المنطقة سواء من الأوساط العسكرية أو المدنية. وبعد تردد يسير قرر جمال الإبقاء عليه على أن يستبدله بمعتقل آخر. لم يكن المعتقل الجديد، الذي سيحل محله في لائحة الإعدام، إلا شقيقه الأصغر الجندي جالو عبدول بي.
تم، بعد ذلك، عزل المعتقلين الذين تم ترقيمهم، وكانوا ينتظرون أن يتم ترحيلهم في شاحنة إلى جهة مجهولة.
كانت موريتانيا، رغم أجواء الشحن السياسي والتعبئة الأمنية، تنتظر عيد الاستقلال وكان المعتقلون العسكريون يتوقعون، دون كبير ثقة، موقفا من الرئيس الموريتاني حينها معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع حول "الأسباب الرسمية" لاعتقالهم. فموريتانيا "ستبلغ من العمر غدا ثلاثين عاما، وهذا ليس حدثا تافها، ومن حقنا، من ثم، أن نترقب حلا مواتيا من قبل من هو المسؤول الأول عن مآسينا". بيد أن "جلادينا كانوا يعدون لنا أكثر أعمال الغدر شناعة منذ قيام موريتانيا" كما يقول محمادو (ص 119).
حوالي منتصف الليل تم وضع المعتقلين الذين تم ترقيمهم أمام العنبر الكبير. كان "خطْـره"، أحد السجانين، يعد، بمساعدة جنود آخرين، الحبال. كانوا يضعون عقدة في أحد طرفي الحبل ويهيئون الطرف الآخر قرب السارية الحديدية التي تتوسط السقف. في مدخل العنبر، كان بعض الضباط يمرون جيئة وذهابا. تحدثوا قليلا إلى جمال ولد اميليد قبل أن يغادروا.
حفلة الموت
كان الرقيب جالو عبدولاي دمبا، مسؤول الفصيلة القتالية في الميناء والذي يحمل الرقم "1"، أول المغادرين إلى العالم الآخر. اقترب منه جمال وسأله إن كان لديه طلب أخير؟ طلب جالو تبغا فأعطي علبة السعوط فدخن بشراهة قبل أن يقوم جنديان باقتياده إلى حبل المشنقة. ألقى نظرة أخيرة على من في العنبر لتكون آخر الصور التي سيصطحبها معه تلك الأشكال المعتمة لرفاقه المكدسين في العنبر، ما بين جالس وممدد، والملتصقة أعينهم به، وذلك بينما كان خطره يلف الحبل حول عنقه. وبمساعدة جندي آخر، دفعه إلى أن ارتفعت قدماه عن الأرض ثم ربط طرف الحبل الآخر بالسارية. وتتابع إعدام بقية المعتقلين.
لم يكونوا مقربين جميعا للإعدام فحسب، بل كان على الجميع مشاهدة كل شيء حتى النهاية دون أن يكون بوسع أي التعبير عن اعتراضه.
كان خطره الذي يشرف على عمليات الشنق يتوقف بين كل عمليتي إعدام ليحتسي كأسه من الشاي وهو يجلس على أحد الجثامين أوبجانب جندي يتدلى من حبل المشنقة. كان ينتقل بين المعلقين في الحبال ليقوم بالإجهاز على من يتأخرون في إسلام الروح بعصا حديدية مركزا ضرباته على منطقة العنق. وأثناء ذلك، كان سليمان وبقية السجانين معه يجهزون الضحايا القادمين، في احترام تام للترتيب.
إعدام الأشقاء
صاحب الرقم "11" كسر روتين المكان. لم يتمكن جالو سيلي بي من كتم الصراخ ليتلقى لكمة عنيفة من أحد الحراس عقابا على تجرئه على التشويش على سير "الحفلة". كانت عيناه ملتصقتين بالجندي المقرب إلى حبل الإعدام إذ لم يكن إلا شقيقه الأصغر جالو عبدول بي، الذي تم استبداله به بعد أن طلب الأول البقاء مع مشاة البحرية، والذي بات يتأرجح في حبل المشنقة أمام ناظريه.
وحين جاء دور الشقيقين جالو عمر دمبا وجالو إبراهيما دمبا، الذين يحملان أرقاما متتالية، لم يكن أي منهم يريد أن يشاهد إعدام أخيه فكان يطلب أن يتم إعدامه أولا. ومن ثم أجرى الجلادون قرعة جاءت نتيجتها إعدام إبراهيما، الأكبر سنا، أولا. كانا معا على الدوام، وقد شاءت الأقدار أن يتم اختيارهما معا للإعدام.
كان من بين من تم إعدامهم أيضا الجندي انجاي صمبا عمر الذي كان من بين من تولوا اعتقال الضابط محمادو سي، مؤلف كتاب "جحيم إنال: رعب المعسكرات في موريتانيا"، أما صمبا كوليبالي، المنتمي أيضا إلى نفس فصيلة المؤلف، فقد كان يحمل الرقم "28" وقد كان آخر من يقرب إلى حبل المشنقة.
ضحايا إضافيون
استمرت عمليات الشنق أكثر من ساعة وبعدها قام الجلادون، وهم أشبه بوحوش مفترسة أثارتها رائحة الدم، بمهاجمة بقية السجناء مدمرين كل شيء يتحرك. وكانت نتيجة عملية القمع التي أعقبت الإعدام 5 قتلى إضافيين من بينهم لي مامادو، الذي كان العسكري الوحيد في المنطقة المتخصص في السلاح المضاد للطيران من عيار 14.5 وكان يتولى تدريب الأفراد، جنودا وضباط صف وضباطا. كان ممن سقطوا أيضا المساعد جوب بوكار بايال، مسؤول المخازن في المنطقة، والذي كان على تفاهم مع الكل ومن كل الرتب.
بعد "حفلة الإعدام"، تم رص أجساد الجنود قرب إحدى الشاحنات. ليتم، دقائق بعد ذلك، دفنهم خلف الساحة المخصصة للرياضة، وينتهي بذلك حفل تخليد عيد الاستقلال الثلاثين، ولكن على الطريقة العسكرية في "إنال".
إعدام العسكريين الموريتانيون الزنوج في "إنال" جاء في سياق حالة الاضطراب السياسي والأمني خلال الفترة الفاصلة بين 1987 و1991 والتي شهدت محاولات انقلاب عسكرية وصدامات عرقية.
ويتهم نظام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع باستغلال محاولات الانقلاب لمباشرة عمليات تطهير عرقي استهدف إعادة رسم الخريطة الديمغرافية عبر تهجير عشرات الآلاف من الزنوج إلى السنغال.
وظلت الحكومة الموريتانية والنخب الموالية لها تنفي جملة وتفصيلا حصول إعدامات خارج نطاق القانون أو عمليات تهجير وتتهم، في المقابل، حركة تحرير الأفارقة الموريتانيين بالتخطيط لإقامة دولة إفريقية عنصرية في موريتانيا وإبادة العرب.
وتعتبر الحكومة الموريتانية أحداث تلك الفترة "موضع عفو عام" وهو ما ترفضه بشدة المنظمات الحقوقية والمنظمات السياسية المدافعة عن حقوق المبعدين الموريتانيين وحقوق ضحايا الانتهاكات.
ودعا تنظيم "افلام"، في بيان وزعه قبل أسبوع، إلى إعلان ذكرى الاستقلال "يوما للحداد الوطني" تذكرا للعسكريين الذين جرى اختيارهم عشوائيا وإعدامهم دون محاكمة في إينال فجر عيد الاستقلال عام 1990، فيما ينتظر أن ينظم نشطاء زنوج في المهجر مسيرات ترفع ذات المطلب.