تعيش الأسرة الكروية الوطنية في البلد، منذ أسابيع، جدلاً، يعلو تارة، ويخفت طوراً، حول قضية لاعب نادي أف سي نواذيبو الشيخ الولي ياسين، وقد سار هذا الجدل في منحاه الرياضي الطبيعي بداية، قبل أن ينحرف عن هذا المسار بفعل فاعل، أو فاعلين، أرادوا صرفه عمداً عن سياقه الطبيعي؛ يريد له البعض منهم أن يكون منعرجاً لقلب كل الموازين والمعطيات الكروية في موريتانيا، ويريد آخرون أن يتخذوا منه مطية يركبونها على طريق تصفية الحسابات الشخصية، وصولاً إلى تحقيق مآرب خاصة، بينما أراد منه البعض الآخر كسب "مودة" صديق هنا، أو "طعن" عدو هناك، على حين غرة من الجميع، وكل هؤلاء قد ضلوا السبيل.
في حين، أبدى آخرون، وقليل ما هم، غيرة على الكرة الوطنية، فنادوا إلى الصلح -والصلح خير - وشيّدوا بكلماتهم المعتدلة والمنصفة طريقاً وسطاً يهدي إلى سواء السبيل؛ فصدحوا بآراء اتسمت بالعقل والبصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، مؤثرين التقريب بين أصحاب مختلف الآراء، والجمع بينها، على السعي وراء انتهازية هذه الظرفية الحساسة لكسب "ود" زائف على حساب الجميع، وهو موقف يستحق الثناء والإعجاب، إذ ليس الوقت مناسباً للمتاجرة بالمواقف!
لو أن القضية برمتها كانت قد سلكت سبلَها القانونية والعرفية السليمة، لما وصلت بنا إلى ما وصلنا إليه من تراشق بالتهم، وتنابز بالألقاب، لم يكن له من داع أصلاً، فضلاً عن كونه لا يغير الحقائق، ولا يقلب المعطيات لصالح أحد، ولكانت المسألة برمتها "ظاهرة صحية" كما وصفها رئيس الاتحادية السيد أحمد ولد يحي، في تصريحه الأخير لقناة بي أن سبورت.
على المستوى النخبوي، لم يكن الاختلاف في الرأي يوماً سبباً في خلق المشاكل والنعرات، بل كان على الدوام مصدراً لثراء الأفكار، وتنوع الرؤى وتكاملها، فبتداخل الألوان المختلفة وتناسقها، يمكننا أن نرسم لوحة فنية جميلة تسر الناظرين، وتأسر عيونهم، أما اللون الواحد فيبقى لوناً واحداً، قد يستحسنه البعض، لكنه لا يمكن أن يشكل لوحة متنوعة جميلة تعجب الجميع.
وهنا بودي أن أسجل موقفي الشخصي من هذه القضية في النقاط التالية، بعيداً عن الإساءة والتجريح، وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح!
1- يجب أن نعرف بداية أن الاتحادية الموريتانية لكرة القدم ليست جهة للحالة المدنية، فلا يمكنها منح الجنسية الموريتانية لأي كان، ولا تملك إمكانية تسجيل أحد على سجل الوثائق المؤمنة، ولا منحه بطاقة تعريف وطنية، فهي تتعامل فقط مع الوثائق التي يُحضرها اللاعبون في ملفاتهم.
وفي حالة اللاعب ياسين، فإن الاتحادية مسؤولة فقط عن التعامل مع الوثائق التي أحضرها له ولوالديه، وليست مسؤولة عن حصول والديه أساساً على بطاقة التعريف الوطنية، ولا عن منحه الشرطة القضائية إفادة هوية وطنية بناءً على ذلك، فتلك مسؤولية الدولة الموريتانية وأجهزتها، ومن يشكك في هوية من منحته الدولة بطاقة التعريف الوطنية فخصمه في ذلك الدولة نفسها وليس الاتحادية.
2- قضية اللاعب ياسين كان يجب أن تبقى في مسارها القانوني العادي؛ فنادي الحرس الوطني تقدم بطعنه إلى الاتحادية، محتجاً على إشراك لاعب في مباراة كان طرفاً فيها، وهذا حق طبيعي للنادي، والاتحادية بدورها حسمت الأمر على مستواها، وأعلنت أن وضعية اللاعب "سليمة قانونياً"، وفقاً لنظام الاتحادية المعمول به، وهذا حقها الطبيعي أيضاً.. وهنا كان يجب أن تكون المسألة قد انتهت على المستوى الإداري، فكل طرف قد أعلن موقفه، وقدّم أدلته، ولم يبقَ، لمن تهمه القضية رياضياً فقط، ولم يقتنع بالحجج المقدمة، سوى أن يطعن أمام محكمة التحكيم الرياضية، الجهة الوحيدة المختصة في البت في النزاعات الرياضية، وليس عيباً أن يذهب إليها أي نادٍ غير مقتنع بقانونية أي قرار يصدر في حقه، ولا يمكن لأحد أن يلومه على ذلك، فإن كسب المعركة هناك فقد كسب، وإن خسرها فإنه لن يخسر الاحترام.
3- ليس هناك أي مبرر لما عمد إليه بعض الرياضيين للأسف من مهاجمة الأشخاص؛ فبأي منطق استحل هؤلاء أعراض الناس وشرفهم بسبب قضية تحدث نظيراتها آلاف المرات في كل الاتحادات الكروية في العالم، من دون أن تدفع أحداً إلى التشهير برئيس اتحادية ولا رئيس نادٍ في أي من تلك الدول، بل أخذت تلك القضايا دائماً مسارها القانوني الطبيعي، إلى أن يتم البت فيها من جهة مختصة مرضية للجميع..
فكيف إذن يستسهل البعض الهجوم الشخصي على رجل ذي فضل كبير على كرة القدم الوطنية لا ينكره إلا جاحد، أو مغرض أعمته مآربه الشخصية عن رؤية الشمس رأد الضحى؟!
أليس السيد أحمد ولد يحي هو الرجل الذي جعل كثيراً من المتحدثين اليوم في الشأن الرياضي، يلجون أصلاً إلى هذا القطاع، ويستهويهم الكلام عنه، والاهتمام به؟ فبدونه لم يكونوا ليعلموا أصلاً أن في موريتانيا شيئاً اسمه كرة القدم؟! ألم تكن الكرة الموريتانية قبله نسياً منسيا؛ً لا تذكر على لسان، ولا ترِد في حديثٍ، إلا حين يتندر الناس بها سخرياً، أو حين يُخبر عنها، على خجل، بعد انسحاب مذل من هذه المسابقة، أو خسران مبين في أخرى؟!
إن ما يحز في النفس حقاً، ويعتصر له القلب حسرة وألماً وكمداً، بل تكاد تخر له الجبال هداً، أن تسمع اليوم، واليوم بالذات، من يقول إن السيد أحمد ولد يحي مفسد، وإن عليه أن يرحل!!! يا للعجب، ويا للعجب حقاً! هل انقلبت موازين القسط في الكلام إلى هذا الحد الذي يصبح فيه المصلحُ مفسداً؟ والباني هادماً؟ فمتى كان النهار المشرق ليلاً معتماً، ومنذ متى صار البطل المغوار خائناً منبوذاً.. لقد جئتم شيئاً إداً.. ما لكم كيف تحكمون؟
هل تتحدثون حقاً عن الرجل الذي ضرب بعصاه الحجر الميت لكرة القدم الموريتانية، فانفجرت منه اثنتى عشرة عيناً وزيادة؛ فعلم كل أناس مشربهم منها؛ هذا يبني ناديَه ويستثمر فيه قناعة بالأمل الجديد، وذاك يقتنع لأول مرة باحتراف كرة القدم مصدراً وحيداً لرزقه، ومجالاً واحداً لحياته وعمله، وهذا يتخذ من الإعلام المتخصص في الرياضة وجهة مفضلة، خصبة بالأخبار والنشاط والعمل، وذلك يجد في كرة القدم الوطنية هواية للتسلية، وإشباع رغباته الكروية، فيولي وجهه شطر الملاعب، فيختار من الأندية الموريتانية "معبداً" يتبتل في محرابه، مستمتعاً بأدائه وتشجيعه، مستغنياً به عن غيره؟
هل تتحدثون حقاً عن الرجل الذي كان يمكن أن يكون أسعد الناس اليوم، سائحاً بين ما يشاء من دول العالم، متمتعاً بما يشتهي مما يلذ له ويطيب، بعيداً عن الضوضاء والمنغصات؛ فلقد حباه الله بالمال - ولا حسد - وسخّر له وسائله، وألهمه حسن التسيير، فكان واحداً من أكثر رجال الأعمال الشباب ابتكاراً ونشاطاً ونجاحاً، لكنه ضحى بكل ذلك، وآثر أن يبذل وقته وجهده في كرة القدم الوطنية، ليس لأنه يحتاج إليها، وإنما لأنه مصاب بفيروس حبها، وحب وطنه قبلها، فاستوطن ملاعبها، واستسهل ما يلاقيه في سبيلها من أذى، وصل يوماً - ذات خلاف مع أحد رؤساء أندية الدرجة الثانية - حتى إلى أعز الناس إليه، والدته الكريمة التي أتت به إلى هذه الدنيا، رغم أنه كان يمكن أن يعيش حياته سعيدا دون أن يذكره ذاكر بما يسوءه أو يؤذيه، في نفسه أو ذويه؟!
هل تتحدثون عن هذا الرجل أم تتحدثون عن "أحمد" آخر غير الذي نعرفه؟
أقول هذا الكلام في حقه، ليس ابتغاء مرضاته، رغم أن مرضاته تهمني كثيراً، ولا أجد معرة ولا مذمة في طلبها - ولكن امتثالاً لقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}، وأنا الذي أعمل مع الرجل منذ سنوات، وأعرفه عن قرب، فما رأيته إلا مضحياً بكل شيء، من ماله ووقته وحتى عرضه، من أجل الكرة الموريتانية، ومن أجل ذلك المنتخب الذي ذرف ذات مرة دموعه الزكية لأجله، في لحظة شعور وطني صادق، لا يقدرها حق قدرها إلا ذو وطنية لا شية فيها؟!
وأما أخي الأكبر السيد موسى ولد خيري، فلم يكن هناك داعٍ أيضاً لمهاجمته والنيل منه لمجرد الاختلاف معه، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، ولا يمكنه أن يمحو، بين عشية وضحاها، ما قدمه الرجل كذلك لكرة القدم الوطنية من خدمة وعطاء، يشهد عليه كل من واكب الظروف الصعبة التي أسس فيها الرجل ناديه أول مرة "أف سي خيري"، عام 2005؛ وظل بجهوده الشخصية يصرف على هذا النادي، ويكد من أجله، حتى بات واحداً من أكبر الأندية في موريتانيا، يحصد البطولات، ويصنع النجوم.
كيف يظن الظانون، ممن يدعون حب الرئيس أحمد، أن النيل من السيد موسى ولد خيري قد يرضيه أو يخدمه؛ فلا أعرف أحداً يقدر دور السيد موسى في خدمة كرة القدم الوطنية أكثر من أحمد ولد يحي نفسه، فهو يقول ذلك على الملأ، وفي مجالسه الخاصة، ويدرك جيداً أن ولد خيري يُعد واحداً من أهم الفاعلين الرياضيين الذين يخدمون مشروع أحمد، الذي جاء به لتطوير كرة القدم الموريتانية، فكيف يظن البعض أن النيل من موسى قد يرضي أحمد؟ وما تكريم موسى لأحمد، وكلامه العظيم عنه منا ببعيد!
4- يتكلم البعض كثيراً عن حاجة الدوري الموريتاني إلى فريقي أف سي نواذيبو وأف سي تفرغ زينه، مبدياً قلقه من سقوط أي منهما إلى الدرجة الثانية، وهنا يهمني أن أوضح أن هذه القضية برمتها لا يمكن أن تذهب بأي من الفريقين إلى الدرجة الثانية، مهما بلغت الأمور..
فبالنسبة لأف سي نواذيبو، حتى لو افترضنا جدلاً أن الاتحادية كانت قد حكمت بصحة طعن فريق الحرس الوطني ضده، بعدم أهلية اللاعب الشيخ الولي ياسين، فإن هذه "المخالفة" لا يمكن أن تؤثر على وضعية الفريق في بطولة الدوري، لسببيْن قانونيين؛ الأول أن نظام المسابقتين منفصل تماماً، فلكل منهما عقوباتها الخاصة التي لا تؤثر على البطولة الأخرى.. والثاني أن مشاركة اللاعب نفسه في بعض مباريات الدوري، وإن كان يُعتبر مخالفة قانونية وفقاً لهذه الفرضية، إلا أن الاتحادية لا يمكن أن تطبق أي عقوبة على النادي على مستوى الدوري، لعدم طعن أي خصم ضده في الدوري، ولعدم إمكانية الطعن الآن لانتهاء مهلته القانونية التي تحددها النظم بثمانٍ وأربعين ساعة على الأكثر من إقامة المباراة المعنية.. وهنا من المهم أن نعرف أن العقوبة لا تترتب قانوناً على مجرد ارتكاب المخالفة بحد ذاتها، بل بناءً على طعن الطرف المتضرر منها، وهي المسألة التي قد فات أوانها.
باختصار، لو أن الاتحادية حكمت ضد نادي أف سي نواذيبو، أو حكمت ضده المحكمة الرياضية لاحقاً، فإن المسألة لن تتجاوز بطولة الكأس الوطنية وحدها، لاقتصار الطعن عليها.
أما نادي تفرغ زينه، فإن انسحابه كذلك من نهائي الكأس لا يُعاقب عليه بالنزول للدرجة الثانية، لعدم الارتباط بين نظامي البطولتين، كما ذكرتُ آنفاً، بل تترتب عليه فقط غرامة مالية، مع إمكانية منع المشاركة في النسخة المقبلة من الكأس، وفقاً لتقييم حجم الحالة.
أخيراً، أعتقد أننا الآن بحاجة إلى الحديث بلغة العقل، لا بلغة العاطفة، وبإشهار ما يجمع، لا ما يفرق، لأن الكرة الموريتانية بحاجة إلى الجميع، وأعتقد كذلك أن النزاعات الرياضية ظاهرة صحية وطبيعية تحدث في كل مكان، ولا تترك ضرراً إذا أبقيت في نطاقها الطبيعي، واتخذت لها الآليات السليمة لفضها وحسمها.
لذلك أرى أن على جميع الفاعلين في الأسرة الكروية في البلد أن يعلموا أن لا مناص من الحوار الهادئ، بعقل وترو، وبقلب كبير، ونيات صادقة، لدراسة هذه القضية ونقاشها، من أجل التوصل إلى حل يُرضي الجميع، علماً أن الإجماع أقوى من سلطة كل القوانين، فاسعوا جميعاً إلى ذلك، لتبقى جهودنا متكاملة ومتماسكة كما كانت، من أجل المضي قدماً بكرتنا الوطنية إلى الأمام، وما ذلك على الله بعزيز.
محمد ولد اندح