لا مراء في أن رهانات جمة وتحديات قوية؛ محلية وإقليمية ودولية واجهت السنوات الأولى من مأمورية رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، غير أن جملة من المكتسبات التنموية التأسيسية الهامة قد تحققت خلال هذه الفترة، وأسهمت في العبور الآمن على درب بلوغ الأهداف الاستراتيجية الكبرى المنشودة، وفتح الآفاق المستقبلية من أجل مزيد من تنمية المكتسبات المتحققة، وتنفيذ البرامج والمشاريع وتفعيل المقاربات والسياسات التنموية الوطنية.
يقع بلدنا في محيط إقليمي قلق ومنطقة جغرافية مضطربة، تهدد بلدانها عوامل مزعزعة للاستقرار، أوشكت أحيانا أن تقوض أسس بعض الدول، وتعصف بكياناتها الهشة وتحولها إلى دول فاشلة، نظرا لسوء الحكامة والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في فضاء يجتاحه التطرف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية... وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة.
وقد تم في السياق كسب الرهان عبر تعزيز المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية، من أجل التصدي الحاسم للجريمة داخليا، ومواجهة التحدي الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة في شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية، فالأمن والاستقرار يتصدران مكتسبات هذه المرحلة، فضلا عن الحكمة التي طبعت التسيير العقلاني الرصين لملف الأزمة في مالي.
ولا يغيب عن الأذهان ما يعيشه العالم في هذا الأوان من وضعية دولية في غاية الصعوبة والتعقيد، وما يواجهه من تحديات أمنية وتنموية وأزمات اقتصادية، فاقمتها تداعيات الجائحة الصحية وانعكاسات الحرب الروسية - الأوكرانية التي ضربت الاقتصادات العالمية، وعمقت أزمة الغلاء وقطعت سلاسل التوريد والإمداد، وعقدت صعوبة الحالة المعيشية، لتنضاف إلى التحديات الأمنية الضاغطة في المنطقة والمخاطر الجيو - ستراتيجية المحدقة في الجوار الإقليمي.
ولم تقف الدولة مكتوفة الأيدي أمام هذه الوضعية، حيث بادرت إلى اجتراح الحلول الاقتصادية العاجلة؛ بغية احتواء ناجع للتداعيات الناجمة عن هذه الأزمات المتزامنة، وتم في هذا الإطار إعلان حزمة إجراءات فعالة في مستهل ظهور جائحة كوفيد، استطاعت - بفضل الله وعونه - التقليل من حدة آثارها على الموطنين، وشملت توزيع الغذاء وتوفير الدواء وتحمل أعباء فواتير الكهرباء والماء عن بعض المواطنين المعدمين والمحتاجين، وتجاوزت ذلك لتصل إلى الإعانات المادية وتوزيع المبالغ المالية على المعوزين المتعففين.
وكان البعد الاجتماعي حاضرا بقوة في مكتسبات هذه المرحلة؛ من خلال سعي حثيث وعمل مؤسسي جاد غايته "الإنصاف" وقوامه "التآزر" والتعاضد مع الفئات الهشة لتمكينها من الولوج للعيش الكريم، وتندرج في هذا السياق تدخلات وبرامج وكالة تآزر وقطاع الشؤون الاجتماعية الهادفة للتكفل بالمرضى المعوزين وذوى الاحتياجات الخاصة، وتحسين ظروف المتقاعدين والزيادة المعتبرة لرواتبهم، فضلا عن تمكين مائة ألف أسرة من الولوج المجاني لنظام التأمين الصحي.
وعلى المستوى السياسي شكل منهج الانفتاح والتشاور مع فرقاء المشهد السياسي الوطني علامة فارقة وقطيعة جذرية مع خطاب الاستقطاب ولغة الاحتراب، وامتازت المرحلة بتجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري والسعي لخلق إجماع وطني؛ عبر التواصل مع النخب السياسية على تنوع مشاربها الإديولوجية وتعدد مرجعياتها الفكرية؛ سبيلا إلى إحداث تحول مجتمعي وصياغة مشروع توافقي تسهر جميع أطرافه؛ أغلبية ومعارضة على تطوير البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية، وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية.
وعلى الصعيد الدبلوماسي ظل البلد خلال السنوات الثلاث الأخيرة حاضرا في المحافل الدولية بحيوية وديناميكية، نظرا لموقعه الاستراتيجي ودوره الحيوي الريادي في منطقة الساحل والفضاء المغاربي العربي، مما مكنه من نيل ثقة الحلفاء الدوليين والشركاء الأوروبيين الذين باتوا يعولون على موريتانيا؛ بوصفها المدخل الأساسي لنسج شراكات واستراتيجيات أمنية قوية مع بلدان الساحل، وتوالت في هذا السياق مؤخرا تصريحات كبار المسؤولين المجمعين على الإشادة بمكانة بلادنا الدبلوماسية، ولعل آخرها ما حصل في قمة الناتو في مدريد وزيارة وزير الخارجية الإسباني الأخيرة لنواكشوط.
ويضيق المقام في هذا المقال عن تعداد البرامج الاقتصادية والمشاريع الاستراتيجية والإصلاحات الهيكلية التي تم تنفيذها في الصحة والتعليم والتشغيل والثقافة والطاقة والزراعة والبنى التحتية، وشكلت استجابة لرهانات تنموية وتحقيقا لمكتسبات جوهرية، أسهمت في إقامة مشاريع هامة وخلق فرص تشغيل مباشرة؛ عبر قطاعات ديناميكية متعددة تراعى الحاجات التنموية والخصوصيات المحلية للاقتصاد الوطني، وتسعى لتعميق الاستفادة من القطاعات الحيوية ذات القيمة المضافة العالية على نحو ما تم التأسيس له على مستوى قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية؛ بوصفهما المرتكز المحوري للاقتصاد الريفي.
ذلك غيض من فيض حصاد المكتسبات المتحققة خلال السنوات الماضية، ولا شك أن تنمية هذه المكتسبات تستدعى مواصلة إطلاق الورشات التنموية والإصلاحات الاقتصادية، وصياغة المقاربات الناجعة لتحقيقها وبلورة السياسات الفعالة لتنفيذها، من خلال العمل على محاربة الفساد بلا هوادة، فمهما كانت وتيرة التطوير والبناء وحجم مشاريع الإعمار؛ فلا تنمية في ظل غياب قيم الحكامة الرشيدة وحسن التسيير؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء، فلا مندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهر الفساد وأشكاله المقنعة، وإطلاق نهج جديد في الحكامة؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه في التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة في جودة الحكامة وحسن التسيير.
كما يتعين في هذا السياق ضخ دماء جديدة في الجهاز الحكومي والإداري، تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذي يضمن فعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
وعموما فإن الاحتفاء الحقيقي بالمكتسبات التنموية ينبغي أن يدفعنا نحو تنمية المكتسبات، وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن حكومة المرحلة - كما أسلفنا - تواجهها رهانات محلية وإقليمية ودولية كبيرة، وهي مطالبة بالارتقاء بمستوى أدائها والإسراع في وتيرة إنجازها، مع قوة الاستشراف ودقة التخطيط وعمق التفكير في برامجها ومقارباتها وسياساتها التنموية، وهي تراعى في كل ذلك مسارين متوازيين؛ مسار ظرفي آني استعجالي غرضه التخفيف من وطأة الفاقة وشح الموارد وحدة الأزمات، ومسار استراتيجي مستقبلي استشرافي غايته النهوض والإقلاع بالبلد، وجعله فضاء للإنجاز وبوابة للتنمية.