إحداهما من الأم أدركتها مع بعض الالتباس؛ كان شعر رأسها قد اشتعل شيبا وجمالا عيناها لاتخفيان حورا وذكاء ؛ وكانت وقورة وصارمة؛ لا تبتسم كثيرا لمن هم في سني؛ لكنها كريمة مع الكبار، تكثر من التلاوة سرا وتستقبل القبلة بشكل دائم خصوصا مع الغدو والآصال؛
تحمل هم الدنيا وتنفث تلاوتها على كل الجهات وحتى في الأعلى والأسفل وكأنها تريد أن تحصن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وربما البشرية جمعاء؛ رغم أن أبنها الأوحد خالي الغالي كثير الأسفار حينها - حفته العناية الإلهية - كان يعني لها شيئا آخر؛ له تعويذاته الخاصة.
أما تلك التي من الأب فقد جمعتنا الحياة قرابة العقدين؛ عرفتها أكثر في العقد الأخير الذي اشتركناه. كانت فيهما قد توقفت عن المشي وبقيت تهتم بالأحفاد على حساب الأولاد، ومنها تعلمت حب الأحفاد من جهة البنات أكثر من نظرائهم من أبناء أخوالهم؛ كانت امرأة مؤمنة صموتة متفائلة. تمتلك حرصا زائدا على تفقد أحوال الناس وتستحي كثيرا من نبش التفاصيل.
قد أكون بحكم الاحتكاك بهذه أكثر من تلك أغفلت حقا وجهلت خصالا؛ لكني كنت محظوظا لأن جدتي كانتا تسكنان أيام صباي في نفس المدينة وكانتا تحبانني كثيرا.
أما جدي لأم فقد التحق بالرفيق الأعلى وأمي - حفتها سرادقات الحفظ - لم تتجاوز الخامسة في أحسن تقدير؛ وكان ومايزال بي شغف من أخباره وتوصلت لأشياء مهمة من أهمها علمه وورعه وأنه كان لحظة فارقة في عمارة الأرض وخدمة عباد الله.
وكان جدي من الأب حين غادر عالمنا السفلي تركني وأنا في الابتدائية ؛ لكني لم أجالسه كثيرا بحكم مكانته كقائد ديني واجتماعي وسياسي ذاهب في الله إنفاقا وإنشادا وإنشاء؛ بشاعريته المرهفة وغناه الفاحش وأناقته وكرمه.
جدتي من الأب التي عرفتها أكثر كانت آخر من ودع العائلة من الأربعة الذين عرفت منهم وجهلت؛ على ضعف الإدراك وحداثة السن؛ وتذكرتهم في أجواء الفرحة والعيد وأنا الكهل الأربعيني سائلا لهم ولآبائهم وأبنائهم؛ من جلت قدرته وعلا شأنه أن يشملهم برضوانه وعفوه.
الجدود والجدات ثروة لغوية وتربوية نفسية وعقائدية؛ لا تقدر بثمن؛ وضمان لانسيابية قيمية في مجتمعاتنا الانشطارية لاتعوض. ففي مجتمعنا ليس كل أب أو أم يملك القدرة على ألا ينمحي في حضرة تجمع الإبن أو البنت مع أحد الجدين أو كليهما. فالاحتفاء بالصغار من قبل ذويهم في حضرة ذوي الذوين وقاحة في الغالب؛ مما يجعل الكبار يعوضون الأطفال ترقيصا ومداعبة وتقبيلا ربما نيابة عن الحضور المضربين.
كان لنا كأطفال ذكور حظ من الدعاء بالفتح والظفر والفوز ؛ وكان للطفلات من لداتنا نصيبهن من أدعية الجدات خصوصا بالنصر والسعد والقبول. لم أكن أفهم ذلك التمييز ولا أعتقدني استوعبت مداءاته كما أريدت. لكن أدركت كثيرا الآن أن امرأة مهما نالت من فتح وفوز وظفر تبقى ناقصة مالم تنطلي بقبول ونصر أو على الأصح "نصرة" بلهجة القوم.
ولمخالطة الكبار دور في تفصيح اللسان وسلاسته؛ فلا شك في أن صغار اليوم الذين لم يكتب لهم حظ من مساكنة الكهول والكهلات لسبب أو لآخر يفتقدون بشكل مدقع لتلك الأدوات التعبيرية وتلك الرزانة في التفكير وردات الأفعال مع عواصف الكلم الهوجاء والاجتراحات اللغوية التي تميز أبناء الحي الواحد فما بالكم بأبناء المدينة الواحدة والبلد الواحد.
إنهم جنان مهملة في حضرات غافلة يعوزها ترتيب الأولويات؛ وتوقذها مصطلحات وإكراهات تترنح بين الدخيل المستورد والمفقود غير المنشود.
كل بيت حباه الله بامرأة أو رجل مسن مهما تبقى من قدراته العقلية والبدنية؛ هو مكتنز بذاكرة حياتية ومكنونات تستحق الاستنطاق والمصاحبة والاستلهام والتقليد والعناية.
لست من دعاة دور رعاية المسنين في مجتمع البرور فيه فريضة والعقوق كبيرة؛ لكني من دعاة إفشاء روح لرعاية المسنين وإعلاء شأنهم؛ خصوصا وأن تراثنا زاخر بتلك الومضات التي وإن تفاوتت جغرافيا وسياقاتيا تبقى حكما خالدة :
اشوف الشيباني التاكي الماشاف افگراش الواگف.
اللي شاف امك اعزوز اگول انها ماكط اشوببت.
"گيم صوتو ناگص قوتو***حمه فاتگابيح الشبان
والگارح لاگيم صوتو***ينزاد اعل اللي حامل كان"
تجتاحني رغبة في إشراك الكهول في السياسة والتدبير والأنس والمغامرة؛ وحتى في العمل. فلا خير في دنيا لا تتضوع منها عطور الليالي.