إن الحديث عن مهنة القضاء، وهو نفسه عن تاريخ ضبط التصرفات البشرية وتداخلها وتشعباها منذ نشأة المعمورة وبتطورها، تنوعت وتعددت المجتمعات ليتنامي ويعظم القضاء وأدواره داخلها بشكل خاص؛ حيث برزت اليوم السلطات القضائية والتنظيم المحكم للقضاة بشكلها الحالي في العالم وأصبحت نزعة التخصصات في صفوفها مسألة محورية لفض النزعات والقيام بالأدوار المناسبة في مختلف المصالح العدلية داخليا وخارجيا (بين الشعوب فيما بينها وعلى مستوى كبريات الشركات العملاقة في العالم وفي تحديد الملكية و طبيعتها....).
وعلى مستوى الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي شهدت فيها مؤسسة القضاء تطورات مهمة قبل الاستقلال خلال مرحلة الإمارات والمجموعات القبلية في المجتمع التقليدي، وإلى حدّ الساعة مرورا بمرحلة بناء الدولة الحديثة.. فإن هذه المؤسسة التي أصبح يطلق عليها السلطة القضائية وفق دستور البلاد والقوانين المنظمة للعمل القضائي ومؤسساته وكادره البشري .. فإن مختلف هذه الآليات على اختلاف درجاتها تؤكد جميعها على اهمية القضاء وتحدد صلاحياته المطلقة فيما أسند إليه من سلطة داخل الحيز الجغرافي للجمهورية؛ كما تبرز "الطبيعة الجمهورية" والصفة الخاصة لهذه السلطة الدستورية عن باقي السلط الدستورية (السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية).. وذلك نتيجة لعدة اعتبارات لتحقيق استقلالها وضمان حيادها ونزاهتها حتى تمارس صلاحياتها الموكلة لها بحكم الاختصاص؛ و في هذا الصدد يمكن أن نشير إلى النقاط التالية :
اولا: السلطة القضائية: سلطة دستورية ذات ميزة خاصة
فهي بحكم كونها سلطة دستورية مستقلة.. يتعين إذن أن تكون بعيدة عن كل ما يستشف منه تكريس للولاءات الضيقة: من توازنات قبلية/ جهوية/ أثنية، و إلا فكيف يمكن الحديث عن الاستقلالية، بل وكيف ستتحقق استقلاليتها التي هي شرط جوهري لوجودها ولأدائها و تقويم عملها !؟
ثانيا: السلطة القضائية.. "سلطة جمهورية" ثابتة لا تتغير
ففي النظم الديمقراطية يتم تمثيل السكان ومختلف مكونات المجتمع داخل مختلف هيئات ومؤسسات الدولة حتى تتحقق قواعد الديموقراطية القائمة على ضمان التمثيل القائم على المادة (21) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي نَصّت صراحة على أنّ "إرادة الشعب هي مصدر السلطات. يُعبّر عنها بانتخابات نزيهة، تجرى على أساس الاقتراع السرّي وحريّة التصويت، إمّا أن تكون دَورية، وإمّا أن تكون نتيجة ظروف استثنائية طارئة"، غير أن الحديث عن تمثيل المكونات على مستوى مؤسسة القضاء؛ حديث غير سليم، ويتناقض مع طبيعتها الجمهورية "الحيادية الخاصة"؛ و بالتالي لا تتماشي ومهمة القضاء، فمن الواضح أن السلطة القضائية على خلاف السلطات الدستورية لها بعض الخصائص تميزها عن غيرها وهي : (1) "ثبات السلطة" حيث لا تخضع لانتخابات معينة ينتخب أعضاؤها كل مرة خلال فترات معينة؛ كما أنها (2)، ليست "سلطة تمثيلية" لمكونات المجتمع الذي توجد فيه، حتى يتم الحديث عن محاصصات وضرورة مراعاة النسبية أو تمثيل لفئات اجتماعية وأقليات معينة أو لتيارات فكرية سياسية/حزبية أو جهوية محددة!
بينما "الطبيعة الجمهورية" للسلطة القضائية المشار إليها هنا تكمن فيما يترتب عليها من ميزات في المجتمعات التي توجد داخلها حيث تضبط الحياة فيها بمختلف جوانبها وتناقضاتها؛ فهي لتحقيق تلك الغايات والمقاصد لابد من أن تتوفر على: الحياد، والتجرد، والموضوعية؛ حتى تقوم هذه السلطة الجمهورية ـ ذات الطابع الخاص ـ بعملها على النحو المرسوم لها سلفا في الدستور والقوانين المنظمة لها ولوظائفها المتعددة والمهمة في السلم والسكينة بين جميع مكونات المجتمع وفي ديمومة الدولة؛ ولا غرابة أن تتواجد ايضا هذه الخصائص والشروط في القواعد القانونية المراد تطبيقها من نصوص قانونية وترسانات قانونية ملزمة.
ثالثا: القضاة وأداء اليمين والولاءات
قال عز وجل: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ"، سورة ص: 26.
من منا لم يتم تكوينه على أساس القواعد والنصوص القانونية الخاصة والعامة التي تعزز تكرس "قناعة القاضي" تحمي وتصون "استقلالية القضاء " !؟ هكذا كان تكويننا جميعا إما بشكل مباشر أو غير مباشر؛ كما أنه بالإضافة لما تقدم أُخِذَ ميثاقا غليظا من كل القضاة -وقضاة موريتانيا ليسوا استثناء عن القاعدة- فور ولوجهم للقضاء، على احترام كل النصوص والقواعد الإجرائية التي تعزز و تكرس استقلاليتهم وتحفظ وتصون قناعتهم؛ حتى يؤدوا مهامهم المحددة بدون شطط وهوى ( البت والحكم في اأعراض وأموال وحقوق العباد وفي حرياتهم وأرواحهم).
ولتحقيق ذلك بشكل جدي ويضمن الحياد والتجرد وضعت مسطرة إجرائية ملزمة لكل قاض قبل مزاولته لعمله، وهي آلية: تأدية اليمن أو القسم، والتي تعني التزاما وتعهدا صريح باحترام القاضي طيلة مساره الوظيفي ل "كل مايخدم و يعزز حرصه وسهره علي تطبيق القانون بتجرد و موضوعية و عمله على ضمان استقلالية القضاء و تحقيق شرف القضاة و كل ما من شأنه أن يعزز قناعتهم" بعيداً عن كل أشكال الضغوطات المختلفة.
ألم نقسم جميعا على هذه الالتزامات!؟ و أو لسنا مطالبين باحترامها خلال جميع مراحل عملنا المهني مهما كانت علاقاتنا الاجتماعية وروافدها ؟؟
يمكن القول انطلاقا مما تقدم أن هذه السلطة الدستورية الخاصة، نظرا لما يترتب عليها من مسؤوليات، تتنافي طبيعتها وماهيتها مع جميع القيود التي تحد من عملها؛ و ذلك على خلاف باقي السلطات أو المؤسسات الدستورية داخل الدول التي تنتهج النظام الديمقراطي التعددي، التي يمكن أن يعتمد فيها، دون المساس باستقلالية القضاء، على قواعد تمثيل المجتمع ومختلف مكوناته على أساس (المحاصصة و النسبية و التمثيل الحزيي....إلخ).
رابعا: ضمانات استقلالية القضاء
في كل دول العالم وعلي الرغم من نظمها السياسية والقضائية المتبانية أحيانا، إلا إنها تتفق تماما على ضرورة حياد واستقلالية القضاء بشكل خاص؛ وذلك من زاوية نفعية براغماتية حتى تقوم هذه السلطة من خلال قضاتها بما أنيط بهم من عمل بحكم القوانين المنظمة لمرافقهم.
وحيث من الاستقراء التاريخي لواقع القضاء لا يمكن تصور- مثلا- في التاريخ أنه: قد تأسس يوما ما قضاء وأنه تم اختيار قضاةٍ له لغرض استباحة المحظورات وتشريع قوانين الغاب تروج لها و تكرس البقاء للاصلح... !
وإنما العكس، نلاحظ أنه يراد من هذه المؤسسة الحيوية في مختلف المجتمعات، وحتى الدراسات الانتربولوجية للمجتمعات تعزز هذا الاعتقاد، أن تصون الحقوق للأفراد والمجتمعات، في منأى عن سلطان الأهواء و المحاباة.
والسلطة القضائية والنظام القضائي الموريتاني تحديدا ليسا بعيدين عن هذه التجارب الإنسانية والقواعد المهمة التي سبق ذكرها؛ بل على العكس فقد أكد القانون الأسمى في الجمهورية (المواد: 91،89،90) كما كرست النصوص المنظمة للعمل القضائي: المكانة المحورية لهذه السلطة وحددت جميعها صلاحياتها وأكدت على أنها سلطة دستورية مستقلة في سبيل آدائها التام لاختصاصها وصلاحياتها المحددة على أكمل وجه.
وحيث أن مدى احترام استقلالية القضاء ومكانة القضاة وأهمية الوسائل المتاحة لهم تتباين حسب جهود القضاة ومدى استعداد الجهات المختصة ومستوى التشريعات المحددة؛ وذلك باختلاف الدول والنظم القضائية في العالم، فإنه يتعين اليوم لتعزيز صلاحيات سلطتنا القضائية وتكريس الضمانات التي تحدد وتؤكد على استقلاليها، خلال هذه المرحلة من تاريخ قضائنا، مراجعة قانون النظام الأساسي للقضاة بجدية؛ على ضوء المواد الدستورية المشار إليها سابقا وكذلك على أساس روح وديباجة والمبادئ العامة التي يقوم عليها هذا القانون الأسمى في ترسانة البلد. وخاصة أن هذه الآليات القانونية السامية تعتبر جميعها منطلقا لضمانات "تعزيز استقلالية القضاء الموريتاني": من خلال مراجعة المواد التي تكفل استقلالية القضاء على نحو قطعي يحمي القاضي من التحويل الإجباري دون الأخذ برأيه، أو دون سبب قانوني مؤسس يحدده القانون، او منعه من حقه في الترقية المستحقة.
هذه الصلاحيات التي تعد في الوقت الحالي من صلاحيات السلطة التنفيذية؛ حيث أنها من سلطة وزير العدل وفق ترتيبات القانون الحالي.
كما يتعين - وفق الصرامة المناسبة - تفعيل قاعدة المكافأة والجزاء لتقدير عمل القضاة وكفاءاتهم والإشادة بنزاهتم وتجربتهم وتثمين تخصصاتهم؛ لضمان أداء أفضل لهذه السلطة الحساسة، من خلال خلق الأجواء الملائمة للتنافس الإيجابي الذي يتنافى ومختلف أشكال الضغوطات والولاءات أو مظاهر الغبن؛ التي لا تخدم بدون شك رسالة ومهمة هذه السلطة الدستورية الخاصة.
خامسا: استقلالية القضاء، خطر على الجمهورية
قد يقول قائل إن مؤسسة القضاء عندنا ضعيفة وإن طلب استقلاليتها قد يشكل خطرا على الدولة وعلى مؤسساتها المختلفة وحتي على المواطنين..كما يقول آخر إن السعي من أجل تكريس استقلالية القضاء سيقود إلى خلق سلطة للقضاة تفوق السلطات الدستورية الأخري.، نتفق تماما على وجود قلة المسؤولية لدى بعض القضاة وغياب روح الوطنية لديهم أحيانا، علي خلاف ما يقتضيه عملهم من صرامة ومهنية في التعامل مع القضايا المعروضة. و إن كانت هذه الحالات نادرة جدا بشكل لا يحتمل التعميم اليوم في واقعنا القضائي؛ ففي السنوات الأخيرة أصبح معظم السلك القضائي يتشكل أساسا من الفئات العمرية الشابة التي تتميز بالمؤهلات المهنية والعلمية المطلوبة حسب المعايير الدولية في المجال القضائي (شهادات جامعية عالية ومرتكزات أخلاقية قوية؛ إحساس عال بالواجب والمسؤولية والمسافة المناسبة مع الأطراف ...)؛ و في نفس الوقت الذي سيكون لهؤلاء الفئات حضور قوي لتغطية النقص الذي سيحصل في عدد القضاة مع نهاية السنة المنصرمة 2022 حيث سيستفيد ما يفوق عشرين قاضيا موريتانيا من حقه في المعاش.
وسيظل كل من إصلاح السلطة القضائية و تعزيز استقلاليتها شرطان جوهريان لضبط السكينة وإنصاف المظلومين ومعاقبة الجناة ومختلف المذنبين وحماية المستثمرين والمتقاضين؛ و كما سيعززان لا محالة من حظوظ البلاد في تبوؤ المكانة اللائقة على مختلف الأصعدة لمواجهة ما تفرضه التحديات المطروحة لدولة ستصبح منتجة للنفط والغاز و تسُنُّ قوانين متنوعة ومتشعبة لتنظيم وحماية النزاعات الناجمة عن حماية ريع ثرورة البلد التي ستشهد تحولات كبري.
وهو ما يتطلب من الجميع وبشكل خاص من قبل الجهات المختصة، العمل على أن يظل القضاء دائما في المكانة اللائقة ليقوم بجميع مسؤولياته القانونية على أكمل و جه؛ وذلك من خلال تعزيز استقلالية السلطة القضائية و صلاحياتها وتوفير المستلزمات المادية والبشرية اللازمة.
سادسا: منتديات عامة حول العدالة لتحديد أى سلطة عادلة للبلد؟
وكيف ستنسجم وتتطابق هذه السلطة الدستورية وطبيعة البلد و تطلعات مواطنيه؟
هذا ما تم الإعلان عنه رسميا اليوم الموافق 5 أكتوبر 2022 من قبل السلطات المختصة، حيث أعلن عن منتديات عامة حول العدالة في البلاد، خلال نهاية السنة الجارية لتحديد التحديات والمعوقات التي تواجه هذا القطاع وإيجاد الحلول والطرق والوسائل الكفيلة بحتقيق إصلاحاتها وضمان استقلالية هذه السلطة الدستورية؛ التي تعتبر أهم دعائم دولة القانون، الضامنة لقيمه الجمهورية و لطبيعة نظامه السياسي الديمقراطي، فبعد الاعتراف بضعف أداء قطاع العدالة من خلال إقامة المتديات المرتقبة؛ نتيجة فشل سياسات إصلاح القطاع المتتالية لدى الحكومات المتتالية، محدثة بذلك أزمة ثقة فيه وفي مردوديته مما يتطلب تقييم أدائه بشكل موضوعي ومهني؛ لنا فعلا أن نطرح التساؤل الذي ستطرحه المنتديات العامة حول العدالة في موريتانيا لإيجاد الحلول معا التي تتطلب الوضعية: ''أي عدالة نريد؟ '' حتي نتمكن من الخروج من عمق الزجاجة التي يتطليها إصلاح قطاع عدالتنا بشكل عصري ومهني يتناسب ومستوى جميع التحديات المطروحة.