أما كيف أكتب القصيدة، فقد سئل الشاعر نزار قباني هذا السؤال، فتهرب من الإجابة، ثم رد بظرافة: "إذا علمت القصيدة أني كشفت سرها فستسفك دمي"! ولكني -التزاما بالصدق مع القراء في الحديث عن أيامي مع الشعر دون مواربة- سأخبرهم بالطريقة الغريبة التي أكتب بها شعري، حتى وإن كان في ذلك كشف لسر القصيدة، وهتك لسترها. فقد كتبت بعض قصائدي في ساعة أو ساعتين، وكتبت بعضها في يوم أو يومين. لكن بعضها الآخر ولد ميلادا غريبا، فرغم أنها قصيرة جدا -شأنها شأن كل نصوصي الشعرية- فقد بدأت كتابتها، ثم لم أكملها إلا بعد سنين، قد تصل عقدا من الزمان. وكثيرا ما كتبت البيت الأخير من القصيدة قبل أي بيت آخر! وتوجد في أغلب الحالات فجوة زمنية واسعة بين الميلاد الشعوري لقصيدتي وميلادها التعبيري. والغالب أن تولد الومضة الشعرية في قلبي فأبدأ كتابة النص، ثم لا تسعفني الطاقة الشعورية والتعبيرية على الاستمرار، فأترك النص جانبا إلى أن تعود تلك الومضة في لحظة أخرى -قد تكون بعد عدة أعوام- فأكمل بناء النص.
ففي عام 2004 -مثلا- سافرت إلى مدينة سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا الأميركية، بدعوة من الجمعية الإسلامية الأميركية MAS لأقدم محاضرات لشباب المسلمين في المدينة، وفي تلك الرحلة كنت أقرأ كتاب الشيخ أبي الحسن الندوي روائع إقبال في ترجمته الإنكليزية Glory of Iqbal، فمررت بهذه الجملة في وصف الندوي لشخصية المسلم على لسان محمد إقبال:
“Even the whole world cannot pay his price, nor can he be bought by anyone except by his Lord.”
ومعناها الحرفي: لا يستطيع العالم كله دفع ثمنه، ولا يستطيع أحد شراءه إلا مولاه.
فقلت في نفسي: هذا الوصف لا يصدق إلا على الشهيد، وطافت بخاطري ومضة شعرية في تلك اللحظة، فصغت ذلك المعنى في شكل بيت شعري يصف الشهيد بأنه:
لا يملك الناس في أمثاله ثـمـنا
لكن رب البرايا يملك الثمنــا
ثم كتبت البيت في قصاصة ورق، ووضعتها في جيبي، وانشغلت بغايات رحلتي، ولم يكن منها قرض الشعر في هضاب كاليفورنيا وغاباتها الساحرة. ودارت السنون وذلك البيت اليتيم رابض في تلك القصاصة، بعد أن نسيته وأضعت مكانه. ثم وجدت القصاصة يوما بين أوراقي، فأكملت القصيدة، وكان ذلك البيت آخر أبياتها، وهي قصيدة "الشهيد" في ديواني.
وفي عام 2010 زرت مدينة اسطنبول لأول مرة، وسرعان ما وقعت في حبائل حبها، وسحرني جمعها بين جمال الطبيعة الآسرة وعبق التاريخ الحضاري الإسلامي. وكان لمساجدها التاريخية العظيمة أثر خاص في نفسي، فبدأت كتابة قصيدة عن اسطنبول، لكن قريحتي لم تسعفني إلا ببيت واحد يصف قباب المساجد في اسطنبول هكذا:
والقباب التي كــهالات بدر
سابحات على أديــم الليالي
وظل هذا البيت مدفونا في ثنايا دفتر صغير لبضع سنين، ثم فاضت القريحة ببقية النص الذي هو الآن قصيدة "اسطنبول" في ديواني، ويحتل ذلك البيت الرقم الخامس ضمن أبياتها.
ونظرا لهذه الفجوة الزمنية بين الميلاد الشعوري للقصيدة واكتمال التعبير عنها، فإن تواريخ قصائد ديواني فيها تجوز، والتاريخ الذي أثبته في دواني هو تاريخ ميلاد القصيدة شعوريا وبداية كتابتها، وليس تاريخ اكتمالها نصا ناجزا. وتذكرني هذه الطريقة في كتابة الشعر بقصة تروى عن أحد الشعراء الشناقطة الأقدمين هو مولود بن أحمد الجواد، خلاصتها أنه عجز عن إكمال البيت الأول من قصيدة له حولا كاملا، حتى حدث ما فجر طاقته التعبيرية، فجاء الشطر الثاني من البيت فيض الخاطر بكل يسر. وقد أورد العلامة الأديب أحمد بن الأمين الشنقيطي (1872-1913) القصة فقال: "ومن ظريف ما اتفق له، أنه أراد قول قصيدة، فنظم الشطر الأول وهو: أمربع الغصن ذا أم تلك أعلامه.
فأرتج عليه سنة، فورد يوما منهلا ليسقي جملا له، فتخاصمت جاريتان في المنهل، فقالت إحداهما للأخرى: والله ما ذلك كذلك، ولا كانت أيامه كما تقولين، أو ما هو قريب من هذا. فضرب جمله من غير أن يسقيه، ودخل الحي وهو يجري به، فظن الناس أنه رأى ما يذعره، فسألوه، فأخبرهم بأنه وجد شطرا يتم به مطلع قصيدته فقال:
أمربع الغصن ذا أم تلك أعلامه؟
لا هو هو ولا الأيام أيامه.(1)
وقد اشتهر الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى بأنه كان يقضي عاما كاملا في تشذيب القصيدة الواحدة وتهذيبها قبل أن يخرجها للناس، وأشار إلى ذلك الشاعر الشنقيطي سيدي محمد بن الشيخ سيديا (1832-1869)، وجعل منه حجة على أن الشعر صعب المراس:
والحول يمكثــه زهير حــجة
أن القوافي لسن طوع الإمعي (2)
وحالة زهير الموصوفة هنا أقرب إلى الإيغال المتعمد في تجويد الصنعة الأدبية، وليس الانتظار العفوي لفيض الخاطر الشعري، على نحو ما رأينا في قصة مولود بن أحمد الجواد. ولعل الصيغة المعاصرة لما كان يفعله زهير هي تقنية "التشذيب"، وهي حكمة تعلمتها من الشاعر الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (1920-1994)، فقد أخذت عنه درسا أدبيا مهما، فكنت إذا كتبت قصيدة شذبتها تشذيبا، بحذف كل ما يمكن حذفه منها، حتى لا يبقى إلا جوهرها الذي لا قوام لها بدونه، وقد أحذف جل أبياتها، فلا أستبقي منها سوى النزر القليل. ولعل هذا مما يفسر قصر نصوصي الشعرية.
المراجع:
- (1) أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (القاهرة: الشركة الدولية للطباعة، 2002)، 193.
- (2) الشنقيطي، الوسيط، 271.