وفي المرحلة الجامعية، انفتحت أمامي نافذة غير متوقعة على الأدب العالمي، وهي ترجمات الأدب الروسي إلى اللغة العربية. فحينما كنت أدرس اللغة الروسية -في قسم الترجمة بجامعة نواكشوط- ترددت كثيرا على مكتبة المركز الثقافي الروسي في العاصمة الموريتانية، فاكتشفت روائع الأدب الروسي، وشغفت بها لعدة أعوام، وبدأت أقتني كتبه وألتهمها التهاما. ولم يسعفني مستوى لغتي الروسية البسيط بقراءة الأدب الروسي في لغته الأصلية، وإنما كنت أقرأه في ترجماته العربية، وأحيانا نادرة في ترجماته الفرنسية.
فمن الأدباء الروس العظام الذين قرأت عددا من أعمالهم في التسعينيات: أبو الأدب الروسي بدون منازع ألكسندر بوشكين (1799-1837)، وفيودور دوستويفسكي (1821-1881)، وليو تولستوي (1828-1910)، وإيفان تورغينيف (1818-1883)، وأنطون تشيخوف (1860-1904)، ومكسيم غوركي (1868-1936)، وإيفان بونين (1870-1953). ولا أزال أتذكر من الأعمال الأدبية الروسية العظيمة -التي قرأتها آنذاك- روايتَي بوشكين "دوبروفسيكي" و"يفغيني أونيغين"، وقصة "الليالي البيض" لدوستويفسكي، وروايته الفلسفية الطويلة "الإخوة كارامازوف"، ورواية "النفوس الميتة" لغوركي، ومجموعة أعمال تشيخوف، خصوصا قصصه المعنونة "السيدة ذات الكلب" التي أهدانيها صديقي وابن عمي، الإعلامي الأديب محمد المختار بن الخليل، المدير الحالي لمركز الجزيرة للدراسات في الدوحة، بعد ما رآه من شغفي بالأدب الروسي أيام دراستي الجامعية.
"شغفت بالأدب الروسي وتذوقته، ولم يكن حالي كذلك مع الآداب الغربية،
فليت شعري ما هو السر في ذلك؟"
وكنت أحرص على اقتناء سلسلة "أعلام الأدب الروسي" الصادرة عن دار "رادوغا" في موسكو، وهي سلسلة بديعة حقا، لكن أثرين أدبيين روسيين من تلك السلسلة خلفا في نفسي أثرا عميقا، وحببا إلى قلبي مطالعة الأدب الروسي، وهما رواية إيفان تورغينيف "الآباء والبنون"، ومجموعة قصص إيفان بونين "الدروب الظليلة". وربما يعود ذلك إلى العمق الفلسفي والديني في رواية "الآباء والبنون"، وتصويرها البديع لصراع الأجيال وتزاحم القيم في الثقافة الروسية، ثم الترجمة العربية البديعة التي صاغ بها الأديب العراقي عبد الله حبه مجموعة قصص "الدروب الظليلة".
والحق أني لم أجد بين مترجمي الأدب الروسي إلى اللغة العربية من هو أبلغ لسانا وأحسن بيانا من الأستاذ عبد الله حبه، وكنت أشعر بأنه مظلوم حين أرى اسمه مكتوبا بخط رفيع جدا في إحدى الصفحات الداخلية لكتاب "الدروب الظليلة". وكم كانت فرحتي عظيمة حين التقيت الأستاذ عبد الله حبه في الدوحة بعد نحو 3 عقود من قراءتي تلك الترجمة، حيث حصل باستحقاق على جائزة حمد بن خليفة الدولية في الترجمة، وقد سعدت كثيرا حين سمعت بالخبر، إذ كيف يجوز أن يبقى مثله من دون اعتراف وتقدير في أمة تحترم ذاتها؟!
لقد شغفت بالأدب الروسي وتذوقته، ولم يكن حالي كذلك مع الآداب الغربية، فليت شعري ما هو السر في ذلك؟ سألت هذا السؤال في لقائي العابر مع الأستاذ المترجم عبد الله حبه بالدوحة عام 2019، فكان جوابه أن الأدب الروسي أقرب إلى روحنا المشرقية من الأدب الغربي. ولست أملك من الخبرة في الأدب المقارن ما يسمح لي بإصدار حكم أطمئن إليه في هذا المضمار، على نحو ما فعل الأستاذ حبه وهو الضليع بالآداب العالمية، رغم إدراكي أن الأدب الفرنسي في حقبته الرومانسية خالطه نفس مشرقي أيضا، وظهر فيه تفهم للثقافة الإسلامية وتعلق بها، على نحو ما نجد مثلا في قصيدة "العام التاسع الهجري" (L’an neuf de l’hégire) للشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هيغو.
"لاحظت خلال قراءاتي في الأدب الروسي ما يدل على الروح المشرقية المنبثة في الأدب الروسي، على نحو يزكي ما ذكره الأستاذ عبد الله حبه".
ومع ذلك فقد لاحظت خلال قراءاتي في الأدب الروسي ما يدل على الروح المشرقية المنبثة في الأدب الروسي، على نحو يزكي ما ذكره الأستاذ عبد الله حبه؛ فقد وجدت أن عظماء الأدب الروسي تأثروا بالثقافة الإسلامية تأثرا عميقا، ومنهم بوشكين، وتولستوي، ودوستويفسكي. ويكفي مثالا على ذلك تلك القصائد التسع التي كتبها أبو الأدب الروسي ألكسندر بوشكين بعنوان: "قبسات من القرآن"، وهي منشورة ضمن مجموعته الشعرية القصائد الشرقية. وحتى إيفان بونين -وهو الأديب الروسي المفضل لدي- فوجئت بعمق تأثره بالثقافة الإسلامية، وإفراده قصائد من شعره لموضوعات إسلامية.
ويبقى أن أقول إني لم أنجذب للأدب الروسي بعد الشيوعية، بمثل انجذابي إليه في حقبته السابقة عليها. وربما أستثني من ذلك شذرات من شعر كونستانتين سيمونوف (1915-1979) سحرتني روحها الملحمية النابضة بمعاني الشجاعة والفداء. ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بمقاطع من قصيدته الرائعة "انتظرني"، وقد كتبها سيمونوف وهو على خط النار، دفاعا عن وطنه في الحرب العالمية الثانية، فتحولت نشيدا ملحميا على كل لسان في الجيش السوفياتي، حتى إنها وجدت في جيوب الجنود السوفيات القتلى على الجبهات، كما يقال. وقد حفظت مقاطع من تلك القصيدة باللغة الروسية أيام دراستي بقسم الترجمة، ولم أعد أتذكر من النزر اليسير الذي تعلمته من اللغة الروسية سوى تلك المقاطع الجميلة، وبضع مفردات وجمل أخرى.