في جمعة شديدة الحرارة في مكان ما على حافة المنطقة الاستوائية وشاطئها الأطلنطي؛ وبعد صلاة الجمعة والإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ يتأبط الشاب "س. م" حاسوبه العتيق ويبدأ الاستماع إلى تسجيل عمره ثلاثون عاما للأيقونة سيد أحمد البكاي ولد عوه؛ كان تم تأليفه على شرف أحد الميسورين من هواة التيدينيت في مقاطعة لكصرالعتيقة؛ قبل أن تتحول إلى ورشة كبرى لإصلاح السيارات وبيع متعلقاتها وإنتاج رؤساء مجموعة انواكشوط الحضرية.
يقول ولد عوه بأريحيته المكثفة ودعابته الثرية في مقدمة التسجيل الزاخر بتراتيل ونسائم وإيحاءات أولاد امبارك إنه: "لولا كرم مضيفه لكان هو وفرقته ما يزالون في أرحام أمهاتهم" يلقي نظرة مموسقة على عناوين الأخبار القادمة من سبخة انداغمشه (انواكشوط) وحين يصدح ولد عوه: ظحكت فاله تنزاه العين... تطالعه شكوى من منظمة غير حكومية من رجل مريض يعرض بناته لأسوإ معاملة في تاريخ المرأة.
تسيل عبرات عرق من فوق ترقوة المهاجر المرهف؛ ويتثاءب من وقع يوم يجمع بين "أم ظليليات" ورياح الگبله و"طمع النو" ويتدفق الشاي في طوره الثاني؛ وتتواصل الاستفهامات تترى: ما الذي دهانا؟ ما ذنب ذلك العضو في مجلس اللوردات البريطاني الذي احتجزه أمير أولاد امبارك في نهاية القرن الثامن عشر على الأرجح وحين عادت فاطمه البركنية زوجة الأمير السجان من رحلة استجمامية إلى ذويها؛ يتم إطلاق سراحه مع الاعتذار والإكرام؛ ويعلل له سجنه بأن "فاطمه ماگط شافت انصاره" ولما أبصرته؛ حانت حريته؟ لم لا نخصص جزءا من مجهودات المعهد الموريتاني للبحث العلمي لسلوك الدولة في عهد أولاد امبارك؛ وكيف استطاعوا الرقي بالفن واللغة والشعر والحرب والسلم في جو مضطرب وحيز ضيق وعفوية في الشأن العام وبأس في الوغى؟
ما حقيقة نسبة كل تلحين ومقطوعة وكل شاهد ومشهود؛ لدولتهم وفنانيهم وشعرائهم؟ لم لا يكون أحد مدرجات جامعة انواكشوط أو مسارح انواكشوط (دور الشباب) باسم أولاد امبارك؟ وكيف زاوجوا بين: دخلنا حمى المختار من مكر ماكر، وبين: خالك عراد امنين انجيه؟ ثم؛ ولفي دمعتها بالتجلاج كل شيء فيما مضى منا جميل وأفضل مما نحن فيه؛ ربما هكذا يرى معظم من تركوا الحدود وراءهم؛ وربما لأننا ننظر إلى الماضي وكأنه جزء منا تولى ولن يعود؛ ولذلك نحبه.
يشدو ولد عوه - تغمده الله برحمته - وتتعمد كاسات الشاي الجلوس متعطلة وتبتعد شمس الخريف رويدا رويدا؛ في وداع لخاطرة نهارية متثاقلة باستفهاماتها المتناحرة. الموريتانيون يحبون أن يحبوا في الليل ويغنوا في الليل ويكتبوا في الليل؛ لأنه فضاء يتساهلون فيه كثيرا مع الخلط بين المكروه والمندوب؛ بين "اتشيمير" والأوراد؛ بين: آن بويه ياقوي ؛ ولبست ثوب الدجى والناس قد رقدوا.
تجربة البوح في النهار نادرة الحدوث؛ وإذا حدثت نادرا ما تتلبس بالكتابة، وللناس في هذا المنكب مذاهب في تلك الحال.
وتعود الاستفهامات والقلق الوجودي منذ الثمانية عشر ربيعا التي قضاها المرحوم المختار على كرسيه والعقدين اللذين أمعن فيهما معاوية في الجلوس؛ ومشاكسات العرش التي تخللت هذه الحقبة وتلك، وأعوام عزيز العشرة؛ على شكل: أين نحن من جيراننا ذوي القربى والجنب؟ وكيف بهؤلاء مروا ولم يودعوا ولم يوفقوا في تقويتنا وتحصيننا من الكثير من الغوائل؟ هل سيقول لنا أحدهم يوما: لقد توليت شأنكم لأن فلانة قالت إنها لم تدخل الرئاسة يوما؟ وإلى متى سنظل متناسين أن التيدينيت والذكر هما المرهم الوحيد الذي تذوب فيه لوعة الإحساس بالتخلف، وأورام الإياب والتهابات المدى.