قبل قرابة العقد من الزمن، إبان رئاستي للمنظمة الشبابية لحزب "تواصل"، جمعني حوار مع أحد الأصدقاء الأعزاء، ممن تربطني وإياه أواصر الرحم والقرابة.
فقد أخذ صديقي أثناء سمر عائلي في الهجوم الشديد على "تواصل" وعلى قيادته بالخصوص واصفا لهم بالمخادعين والمفسدين ورجال المخابرات، وبأنهم يستغلون الدين لتحقيق مآرب شخصية.. لم أكن في الحقيقة متحمسا لمشاركة صديقنا العزيز في حملته، ولا في الرد عليه، فقد أخذ مني الإعياء كل مأخذ بعد يوم شاق مضن، وقد تعلمت الزهد في مثل هذه المناكفات، لما تُضيع من وقت وتكدر من صفاء، دون فائدة كبيرة مرجوة..
ولكن الأدب مع القريب الصديق الذي يزورنا بعد فترة انقطاع اضطرني للمشاركة، وكذلك مخافة أن يعلق شيء مما يقوله في أذهان بعض الحاضرين.
قلت: أتذكر يا صديقي العزيز قبل أكثر من عقد من الزمن حين وجدتني أشترك في بعض الأنشطة الثقافية وأحضر بعض الدروس المسجدية وأصاحب بعض الخيرين.. أتذكر أنك نصحتني مشفقا بأن أبتعد عن هؤلاء القوم فهم يشكلون خطرا على المجتمع وتقاليده، وبأن لا تغرني منهم المظاهر الحسنة ولا الكلمات المعسولة، فوراءها قلوب تضمر الشر، ونفوس جبلت على الخداع والمتاجرة بالدين.. وقد تحججت بأنك الأكبر سنا، والأكثر تجربة ومعرفة بأحوال الناس.
طبعا لم ألتفت كثيرا لنصحك وتجربتك، فقد كانت بساطة أولئك الفتيان، وحتى سذاجتهم التي تشع صدقا وبراءة وحماسا للخير؛ أقوى في نفسي، وأبلغ أثرا من أن تشوش عليها تهويمات صديقي المجرب.
وحين يئستم من ثنيي عن ذلك الطريق؛ انتقلت أنت وبعض أصدقائنا الأحبة إلى أسلوب آخر، هو أسلوب التنكيت والسخرية والتندر والاستهزاء، فحينا تقولون: لا تحزنوا على صديقكم؛ فهذه توبة ما قبل الباكلوريا وسيعود إلى الحظيرة ريثما يتجاوز هذا الامتحان العسير!
وحينا بالتندر على الشكل وبعض مظاهر الالتزام.. وقد تستعينون ـ غفر الله لكم ـ بسطوة بعض المِلاح وما يتمتعن به من أسلحة فتاكة إذا أعيتكم مقارعة الحجة بالحجة!
صاحبك الآن يا صديقي تجاوز الباكلوريا هو وأغلب شلته الذين كانوا معه، ولم يتخلوا عن التزامهم وما عرفوا من الحق، ثم درس الجامعة وحصل المتريز ثم الماستر، أولى وثانية ولا زالت تراوده آمال الدكتوراه – هذا حديث الشباب حينها ههه ـ ولم يزدد مع ذلك إلا قناعة وتمسكا واعتزازا بمنهجه الذي سلك، وبصحبه الذين ارتضى، يوم كان غرا بريئا، لا يملك من أدوات الاختيارالمنهجية والعلمية؛ غير فطرته السليمة ونفسه اللوامة وروحه التواقة للخير، المحبة لأهله.
و"تواصل" يا صديقي هو امتداد لذلك النور الذي أوقد جذوته في نفسي أولئك الشببة الأطهار، وحمل مشعله قبلنا بعقود خيار من خيار.
"تواصل" هو استمرار لجهود العلماء والدعاة والمصلحين من أبناء الحركة الإسلامية المباركة، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} فـ"تواصل" يا صديقي كالنخلة الباسقة، عميقة الجذور، صلبة الجذع، ظليلة الجوار، دانية الثمار.
الآن يا صديقي بعد أن عرفت "تواصل" وعلاقتي به؛ يمكنني أن أستمع لنصائحك، وأن أسلم مقتنعا بما تقول؛ ولكن بأحد شرطين:
الأول: أن تفترض في صاحبك السذاجة البالغة، بل والحمق الشديد، بحيث لم يستطع أن يكتشف حقيقة القوم وخداعهم، وقد عايشهم زمنا طويلا، تلميذا وطالبا وعضوا ثم قائدا في هيئاتهم؛ في حين تبينت لك أنت حقيقتهم، ولما تصاحبهم أو تعايشهم أو تخالطهم؛ وقبله بأعوام عديدة!
فهز صاحبنا رأسه، وقال بسرعة: لا، ليست هذه؛ ولكن لعلها تكون الثانية، فهاتها!
فقلت: فإن أبيت الأولى فلا بد ـ والخطاب للجمع الحاضرين "ومنهن أمي وابنتاها وخالتي"ـ أن تفرضوا في صاحبكم هذا الذي خبرتموه وعرفتم مداخله ومخارجه؛ الكذب والخداع، وبأنه يظهر غير ما يضمر، وكيف لا ؟! وقد صحب القوم وجربهم وعايشهم وصار جزءاً من قيادتهم، عضوا في المكتب السياسي واللجنة التنفيذية وعضوا في أغلب اللجان المحضرة لمختلف الأنشطة أو المهيئة لمختلف القرارات..
فهو إذا إما ساذج غر وقد أبيتها؛ أو مخادع كذاب قد عرف الحق فسكت عنه أو نطق وعمل بخلافه؟! فضرب صديقي بكفيه، وزم شفتيه، وقال: معاذ الله! معاذ الله! وما ذاك إلا من فضل الله ومنه، فقد ستر وحفظ، ونرجوه أن يديم الستر والحفظ.
فقلت لم يبق أمامك إذا إلا أن تراجع مسلماتك وتنظر القوم بميزان العدل والقسط والموضوعية.. فتدخلت الخالة سريعا: ألم ننصحك! "تعط الراصك العافية واتخلي عنك ذو الاصلاحيين ما عندك عيبهم".
فقرب صديقنا نعليه وتهيأ للمغادرة، فقلت: لا تستعجل، وانتظر لأزيدك من الشعر بيتا، والعشاء قريب قد تقدمت طلائعه، وما عهدتك يا صديقي يُعجلك شيء عن العشاء، طبعا بالفتح!
فقلت اجلس صديقي العزيز أعرني سمعك، وارعني فؤادك، وأنظرني أنبئك اليقين من خبر القوم، ولا ينبئك مثل خبير، أعرف أنك طيب القلب لا تضمر السوء، ولكنها دعاية المخابرات، وكيد وحبائل الخصوم، تفعل فعلها في أمثالك من الطيبين البطالين، وكذلك طبيعة مجتمعنا الذي يفضل الشائعات والأحاديث الغريبة المنكرة، ولا أغرب وأطرف من أن تحاول حجب ضوء الشمس بغربالك، أو تعكر بحصاتك صورة القمر المنعكس على صفحة جدول عذب رقراق.
ولأختصر؛ سأحدثك عن كبيرهم، الذي علمهم السحر؛ سحر البيان، وقوة المنطق، ووضوح الحجة، وأكثر من ركزت عليه الدعاية بالاتهام والتشويه..
وسأكتفي بموقف واحد طريف حصل معي؛ هو اتصال من الوالدة ـ حفظها ربي ـ فقد اتصلت بي يوما إبان رئاستي للمنظمة الشبابية للحزب قائلة: "يقال بأن ول بوعماتو أهدى لحزبكم الكثير من السيارات (أظنها قالت 20) وأبلغ "فلان" بأن لا ينسانا ولا ينساك أنت" فضحكت وقلت لها لعلهم يتفاءلون الخير، ربما تكون ما زالت في الطريق..
وأردفت: توجد فعلا عند الرئيس سيارة من نوع نيسان؛ التي يمثل شركتها ول بوعماتو في موريتانيا، ولكن يُغنينا ويُغنيك والدتي الغالية، فهي من بقايا ما يوزعه البرلمان قرعة على نوابه، ويدفعون في مقابله، ومع ذلك فقد أُعمل فيها مشرط الميكانيكي والكهرربائي وطوفت بها فرشاة الدهان فتحولت من لون إلى لون، ولكن، هيهات! وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر!
ولكن يبدو أن رئيسنا - دام عزه - فرح بها أيما فرح، وصارت لا تفارقه في حله وترحاله، في شؤونه الخاصة، وفي بعثات الحزب الرسمية، كأنما عناه وعناها قيس بقوله:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فإذا اقترحنا أن نستأجر بدلا منها في بعض أسفارنا الشاقة الطويلة؛ تكون أليق منها منظرا، وأصبر على لواء السفر، ومشاق الطريق؛ رفض أشد الرفض، وانبرى يعدد محاسنها ويذكر إيجابياتها ويعظنا في القناعة والبساطة.. حتى نقول: ليته سكت، وليتنا ما سألنا.
ويتندر عليها الرئيس غلام، ويتنمى لو تنقرض من الوجود.. وكثيرا ما خاطب الرئيس مازحا: بأن أكبر خدمة يمكن أن تجنى منها؛ هي أن نتركها في بعض أسفارنا على قارعة طريق الأمل، فستصلح دون شك كشكا لأحد باعة اللبن، ونكون قدمنا خدمة جليلة للوطن وللحزب.. ولكن هيهات هيهات أن يُسمع فيها عَذل العُذال وإن قربوا:
قل للعذول لقد أطلــــــــت لمن تلوم وتعذل
عاتبت من لا يرعوي وعذلت من لا يقبل
تململ صديقي وهو يريد المغادرة، وقد استبطأ العشاء واستثقل الحديث. فقلت: انتظر، انتظر لأحدثك عن منزل رئيسنا وفرسه وسيفه وقلمه، فصاح صديقي: حسبك حسبك أتظن رئيسكم المتنبي أو هارون الرشيد فضحكت وضحك الجميع وصادف ذلك استواء المائدة، فانشرح صدره وأبرقت أسارير وجه..
فاغتمت السانحة وختمت مخاطبا صديقي: ألا تتقي الله في نفسك، ألا يكفيك أن تعيش عمرك فارغا هملا لا تسهم في إصلاح ولا تغيير، ولا تفيد في هم دنيا ولا سعي أخرى؛ لتضيف إلى ذلك الولوغ في أعراض الناس وإشاعة الأراجيف في صفوف الأخيار المؤمنين!
ثم أعجلتنا المائدة وأعلنت الوالدة بيانها المشهور "إذا حضرت النفقة ضمت الورقة" وكذلك السياسة!
وها أنذا قبيل مؤتمر الحزب الرابع، وبعد عقد من محاورة صديقي؛ أقول شهادة لله وقد خبرت الأحزاب والتيارات في الثانوية والجامعة، في سوح النضال وأروقة السياسة، في الأسواق وميادين التجارة، في ساحات العلم والدعوة ومحاضن التربية..
أقول وقد عرفت أهل "تواصل" وخبرتهم؛ بأنهم من أفضل من عايشت وصحبت في هذا البلد، صدقا وإخلاصا، تجردا وأمانة.. وحرصا على الخير لوطنهم وأمتهم ودينهم، قد يكون منهم المقصر والمخطء والمسيء والضعيف ـ وحظي من ذلك ربما الأوفرـ ولكنهم في مجموعهم أخيار فضلاء أنقياء أتقياء.. قد تجد في غيرهم من الأحزاب والتيارات من هو خير منهم أو أعلم أو أتقى.. ولكن لست ملاقيا جمعا كجمعهم في الخير والتقوى والصلاح والتضحية والتجرد..
هذا "تواصل" حزبي فليرني امرؤ حزبه
ومنا غداة الروع فرسان غارة *** إذا مَتَعت تحت الزِجاج الأشاجعُ
ومنا الذي قاد الجياد على الوجا *** لنجران حتى صبحتها النَزائع
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين