التعصب مع القاتل هدرللدماء وتشجيع للقتل :
رغم أن قانون العقوبات الموريتاني الصادر سنة 1983 أكد في المادة 295 على أن " كل من قتل خطأ .. يعاقب بالدية .." فإن عادة منع الورثة من أخذ الدية من الجاني اوعاقلته وأخذها من عاقلة المقتول ،وترك القاتل عمدا يذهب بدون قود بلا مبرر، سيبقى خطرها كبيرجداعلى المجتمع،
لمافي ذلك من هدر للدماء وتشجيع للظلمة على زهق أرواح الأبرياء ، كما يقول الشيخ محمد يسلم في كتابه " توجيه المجموعات القبلية إلى ما يلزمهم في أخذ الدية" :" أما وجه كونه إهدارا للدم فلأن ما يؤخذ من الدية إنما تعطيه عاقلة المقتول لبعض عاقلته من ورثته فمضرته مقتصرة عليها سواء الدافع منها والآخذ ، أما الدافع فيتضرر باستهلاك ماله في الإنفاق على غيره مباشرة ،
وأما الآخذ فيتضرر من منة المعطي التي صرحوا بأنها تسقط وجوب الوضوء إن لم يوجد ثمنه إلا بالهبة ، بالإضافة إلى أن من وهبوه هم أصحاب كفالته الإجتماعية في كل نوائبه الزمنية ، فكل تضررهم المالي يتضرر به ، إذ قد يصير بهم الضررإلى أن يعجزوا عن لوازم التكافل الإجتماعي من عقل وغيره ، وفي ذلك ضررعليه وعلى كل عاقلته .ولاضرر على القاتل فيما تدفعه عاقلة المقتول لورثته لا في الحس ، إذ لم ينفق فيه شيئا من ممتلكاته ولا في المعنى إذ لم يعط موادة له ولاصدقة عليه ..
وأما وجه كونه تشجيعا للظلمة على القتل ، فإن من علم بعادتهم أن من قتل منهم يغرمون ديته لأهله عن قاتله هان على الظلمة سفك دمائهم ، لاسيما إذا عرفوا أن حد القصاص لايقام عليهم ..
فكأن أصحاب هذه العادة تعصبوا مع أعدائهم ممن لاتربطه بهم عاقلة على قتلهم عمدا..وقد اتفق العلماء على منع التعصب على قتل العمد فيما بين العاقلة الواحدة فكيف به فيما بينها وبين من لا يربطها به علاقة عصب ولاتحالف .
كما اتفقوا على أن دية العمد حد في الجملة لإجماعهم على حرمة إهدار دم المسلم بدون مقابل من قصاص ودية ، إلا إذا تطوع أولياء الدم بالعفو مجانا ..
وإذا كانت حدا من حدود الله تعالى في حالة تعينها ، فإن أصحاب هذه العادة أجمعوا على خلاف المجمع عليه من وجوب إقامة حدود الله تعالى وحرمة الشفاعة إلى الأئمة فيها أو العفوعنها إلا لمن استثنى الله له ذلك من أولياء الدم في مسالة قتل العمد خاصة ".
ـ الدية حد من حدود الله وأحكامها خارجة عن القياس :
إذا كانت دية العمد حد من حدود الله تعالى مع كونها عقوبة بديلة في حالة سقوط القصاص ،كمارأينا من قبل ، فإن العلماء قد أجمعوا على أن دية القتل والجرح شبه العمد ، والخطأ حد من حدود الله تعالى لكونها دينا منجما على ثلاث سنين وعقوبة أصلية ثابتة معروفة القدر والصفة لايجوزإدخال تبديل أوتعديل في أحكامها لأن فيها زجر وفيها ردع يكف الجناة ويحمي نفوس الناس ، قال تعالى : ((إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)) ((ومن يتعد حدود الله فقدظلم نفسه )) .. يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية:
"الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع على ارتكاب ما حظر وترك ما أمر ..فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حظراً من ألم العقوبة ..وليكون ما حظر ممنوعاً وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم"
ومع ذلك فأصحاب هذه العادة يشرعون على الله بغيرإذن ، إذ لامعنى للتحريم أكثر من النهي الجازم المتوعد عليه بالعقاب ، في حالة أخذ الدية ممن ألزمته ، وإيجاب إعطائها ممن لم يلزمه الشرع بذلك ، وقد أكد الفقهاء على أن هذا الإجراء يعتبر تحريما لما أحل الله فضلا عن كونه نسخا للشرع بالعوائد ،التي لم ينتبه أصحابها أن أحكام الدية خارجة عن القياس كإلزام عاقلة القاتل بالدية على خلاف قاعدة ((ولاتزر وازرة وزر أخرى)) وأحكام القسامة .
وإذا كان أصحاب هذه العادة يعتبرون أن ما يقومون به هو من باب التطوعات الخيرية ،ويخدم العزة والكرامة ، فإن من لم تلزمهم الدية لا يدفعونها إلا وهم كارهون ، خشية من العارالمزعوم ، وهذا يتناقض مع الحديث الصحيح : (لايحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس ).
ومع ذلك فإن من لم تلزمهم الدية شرعا قد لا يعطون منها شيئا ، وإن هموا بدفعها لأصحابها فسوف تكون ناقصة عن المحدود للدية الشرعية ، لأن المتطوع أكثر تساهلا من المفترض .
ثم إنه ليس من دلائل ضعف شوكة القبيلة ولامن دلائل التفريط في كرامتها ، أنها تأخذ الدية من قبيلة أخرى ، فقد وجدنا في أيام العرب أن قبيلة عبس التي هي إحدى جمرات العرب أخذت الدية من قبيلة ذبيان بعد حربهما الطويلة المعروفة بحرب داحس والغبراء ،وقد تكفل بهذه الدية:هرم بن سنان والحارث بن عوف عن قبيلتهما ذبيان ،وفي ذلك يقول زهيربن أبي سلمى المعروف بصداقته لذبيان:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشهم وذبيان قد زلت بأقدامها النــــعل
فأصبحتمامنها على خير موطــن سبيلكما فيه وإن أحزنوا ســــهل
ويفهم من هذا أن عبسا كانت لها الغلبة لأن الشاعريعتبرأن قبيلة ذبيان زلت أقدامها في هذه الحرب ،التي كادت أن تقضي على القبيلتين ، وهو ما يستوجب مدح من سعى في الصلح ، لذلك فإن زهير قد سجل وقائع هذه الحرب وبالغ في مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف في معلقته المشهورة ، التي يقول فيها :
يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشـم.
ومع ذلك فإن العزة والكرامة لا يمكن ربطهما بالأعراف والعوائد الفاسدة والقبيحة شرعا، لأن ما أمرت به الشريعة الإسلامية واختاره لنا أفضل خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم ،الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق فهوالحسن ، لذلك يقول صاحب الإضاءة :
وما لعقل وحده توصــــــل إلى قبيح أوإلى مايجمـل
بل بما بفعله أمرنا فالحسن وضده انقاد لقبح بالرسن .