لا يتأثر المفكرون والكتاب في صياغة رؤاهم ومقولاتهم ومقالاتهم الفكرية بشيء أشد من صياغة هذه الرؤى لأغراض الخصومة السياسية أو الأيديولوجية، وهو للأسف الشديد ما وقع فيه المفكر والفيلسوف د. السيد ولد اباه، الذي عرف عنه دخوله "مؤازرا فكريا" لأنظمة قمعية ملأت سجونها من الجماعات المحسوبة على الإخوان، بدءا من مقالته التي نشرها صيف 2005 في جريدة "القلم" الموريتانية عن ضبابية مفهوم الدولة الإسلامية عند الحركات الإسلامية في وقت كانت سجون ولد الطائع تكتظ بقادة التيار الإسلامي، وانتهاء بهجومه الحالي بشكل شبه أسبوعي في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية على الإخوان الذين تسجن الإمارات كل قياداتهم المحلية وتحارب بلا هوادة كل المحسوبين عليهم عبر المعمورة.
هذه التوقيتات والدوافع الخاطئة للسجال الفكري أدت بـ د. السيد إلى أخطاء علمية ومنهجية، رغم خطورتها؛ فإن سمعة د. السيد ومهارته الكتابية قد تحجبها بادئ القراءة، لذلك لزم التوقف مع بعض هذه الأخطاء مما حمله المقال الأخير له عن "أدلجة الإسلام":
1- الصياغة المدلِّسة لآراء الآخرين:
يعرف عن المؤلفين في الأفكار والمذاهب والنحل توخيهم الشديد للدقة في التعبير عن آراء أصحابها وفصلهم بين حكاية الرأي وردهم عليه، لكن د. السيد تنكب هذا الأسلوب في مقالته كليا، وهو أمر دفعه إليه سعيه لإثبات تبني الإخوان لتفسير إيديولوجي سياسي للإسلام مخالف تماما لآراء غيرهم من المسلمين بدء من علماء "التقليد التراثي" - على حد وصف السيد - إلى قادة التجديد الفكري في العصور الحديثة.
في هذا الصدد؛ يصوغ السيد آراء الإخوان وغيرهم صياغة ملتبسة –حتى لا أقول ملبسة - لتؤدي هذا الغرض، فآراء الفقهاء والمتكلمين يختزلها د. السيد بطريقة عجيبة لا يدري المرء هل هي متناقضة، أم لا معنى لها؛ فهم يرون – حسب ما ينقله السيد - أن "مسائل الإمامة تدبيرية لا شأن لها بالدين" (يمكن المقارنة مع عبارة الماوردي في مقدمة الأحكام السلطانية التي تقول "ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع) ويرون في نفس الوقت – حسب نقله دائما - أن "واجب الدولة رعاية الدين وحراسته" (عبارة ابن خلدون –مثلا - هي رعاية الدين وحراسة الدنيا به).
وعلى نفس المنوال يصوغ د. السيد موقف أبي زهرة – على سبيل المثال - صياغة ملتبسة حين ينقل عن رضوان السيد أن أبا زهرة كان يرى أن "القول بأن الإسلام دين وسياسة أمر لا أصل له في الدين" في حين أن أبا زهرة – كغيره من عامة العلماء - كان يقول بــ"مفهوم الدولة الإسلامية" الذي يؤول – حسب السيد - "إلى تحويل الدين إلى أيديولوجيا للدولة الشمولية" (ينظر مثلا ما كتبه أبو زهرة رحمه الله في كتابه في السيرة "خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم" في الصفحات الأولى من الجزء الثاني عن "الأهداف الاجتماعية والدولية للدولة الإسلامية").
نفس التدليس يمارسه د. السيد في صياغة مواقف الإخوان الذي يبلغ ذروته بتعبير السيد عن تبني الإخوان لآراء المستشرقين المناوئين للإسلام عن (الطابع القانوني السياسي للإسلام الذي يمنعه من التأقلم مع قيم الذاتية والديمقراطية والتعددية) دون عزو لهذا التبني، وفي تجاهل تام للمواقف المعروفة لمفكري الإخوان حول علاقة الإسلام بهذه القيم (طبعا سيعود السيد في نهاية المقال في سياق آخر ليقول إنه مجرد تكيف مع آليات التمثيل الديمقراطي).
إن د. السيد يحاول أن يثبت شيئا يسميه "القراءة الإيديولوجية السياسية للإسلام" عند الإخوان انفردوا به عن غيرهم من خلق الله! وفي سبيل ذلك يتجاهل أن هناك أكثر من خط إصلاحي استدعى – بتركيز -القيم السياسية للإسلام (الكواكبي والأفغاني) أو اهتم بالجانب القانوني للإسلام (أبو زهرة، وكتاباه عن الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، وكتابه عن الأحوال الشخصية) دون أن يعني ذلك تقاطعا مع المستشرقين المناوئين للإسلام في وصفه بأنه ديانة سياسية تغفل الجوانب الروحية (طبعا أغفل د. السيد هذا الجزء المحوري من التهمة الاستشراقية لتسهيل مهمة تشبيه الإخوان بالمستشرقين المناوئين للإسلام).
هذا فضلا عن إغفال د. السيد لآراء كثير من مفكري الإخوان التي فصلت كثيرا في علاقة الدين والسياسة وابتكرت توصيفات أكثر دقة – أو على الأقل أسعى للدقة - من توصيفات د. السيد في هذا المقال، وهي الآراء التي اطلع السيد على ورقة علمية عنها قدمها الأستاذ محمد جميل منصور في ندوة نظمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في نواكشوط!
2 - تبني التفسير الاختزالي التبسيطي
في تفسيره للظاهرة التي تمثلها المدرسة الإخوانية بين التجارب الإصلاحية المعاصرة انتهج د. السيد أقصى أساليب الاختزال والتبسيط لدرجة إنكار الحقائق الماثلة واختلاق التهم الغريبة وإغفال بديهيات الحجاج العلمي.
أ - فهذه الظاهرة الدينية السياسية التي استطاعت الاستمرار قرابة القرن وتمددت في كل بقاع العالم التي يوجد بها المسلمون منذ نشأتها حتى الآن لا تعدو عند د. السيد أن تكون:
- "نكوصاً جلياً عن التوجهين الأساسيين اللذين عرفتهما الساحة الإسلامية في بدايات القرن العشرين".
- "معزولة في الساحة العلمية والفكرية الإسلامية".
- "في قطيعة مع التقليد التراثي".
- متبنية "لما ذهب إليه بعض المستشرقين المناوئين للإسلام".
- "مرغمة على قبول كسر احتكار الشرعية الدينية".
أما سؤال:
ولماذا كانت هذه الظاهرة أكثر الاتجاهات الدينية الحديثة قبولا في العالم الإسلامي المعاصر؟
فذلك لغز لا تستحق الشعوب على المفكر التنويري أن يجيبها عليه؟ (لا يعني طرح هذا السؤال تبني إجابة بتميز فريد للإخوان عن غيرهم، ولكنه تنبيه على أن اللوحة السوداء التي رسمها د. السيد عن الإخوان نتاج اختزال أيديولوجي وليست نظرة عليمة).
ب - في علاقة الإخوان بالعلماء – ودون الدخول في جدال بارد حول صحة ما قاله السيد - فكيف يمكننا تفسير تذكٌّر د. السيد للعالم الأزهري حسن الباقوري الذي توفي منذ عقود ولم يشتهر له إنتاج علمي ونسيانه للشيخ القرضاوي مثلا إلا إذا كان شرط العلم عنده هو الخروج من الإخوان.
ثم إن د. السيد لم يثبت بالأدلة ما قال إنه "نقمة" الغزالي والباقوري رحمهما الله على الإخوان، فمجرد الخلاف مع قيادة إخوانية في ظرف معين لا يثبت هذه النقمة، ومن المعروف – مثلا - أن الغزالي رحمه الله تصالح مع الأستاذ الهضيبي بعد خروجه مع السجن رغم أنه لم يعد بالفعل إلى التنظيم... ولكن على كل حال لم تدفعه "النقمة" على الإخوان لإثارة الخلاف معهم أثناء سجنهم رغم إلحاح عبد الناصر وقال قولته المشهورة: أنا لا أجهز على جريح!
ج - وتصل الرؤية التبسيطية والابتعاد عن الأسلوب العلمي مداها عند د. السيد بالحكم على المدرسة الإخوانية بالبطلان لمخالفتها لغيرها من المدارس أو لحكم مفكر معين عليها بـ"الماسونية"، في تجاهل واضح لأن الاجتهاد لا يرد بالاجتهاد، وأن التهم الجزافية لا تثبتها مكانة قائلها.
على أنه يلزمني أن لا أختم هذه العجالة دون التنبيه على هذه الأخطاء التي يرتكبها السيد حين يكتب لدوافع سياسية وأيديولوجية لا تعني أبدا عدم اعتراف بالمكانة العلمية السامقة للدكتور، ولا أحقيته وقدرته على تقويم الخطاب الذي تقدمه المدرسة الإخوانية وإنما هي تنبيه على الحاجة لفصل النقد العلمي الموضوعي عن الآراء الإيديولوجية خاصة في حقل مثل الفكر السياسي بما له من تأثير كبير على واقع المسلمين وأفكارهم.