أصدر المجلس الدستوري في مداولات جلسته المنعقدة يوم 06/3/2023 قراره رقم 007/23/ م. د حول الطعن الذي تقدم به أمامه رئيس الجمهورية السابق ودفاعه بعدم دستورية المواد 16 و47 من قانون مكافحة الفساد و278 من قانون الإجراءات الجنائية؛ والذي تم تبليغه للطاعن عصر يوم 08 /3/ 2023.
ونظرا لما لهذه المعركة القانونية والدستورية التي تدور الآن من أهمية، وما سيترتب عنها من أثر، يتجاوز المحاكمة الجارية ويترك بصماته على حاضر ومستقبل القضاء والتشريع والسياسة في موريتانيا، فإن من حقنا وواجبنا أن نتقدم بملاحظات أولية على هذا القرار!
أولا: في الشكل. إننا نهنئ أنفسنا على صحة وسلامة الإجراءات التي قمنا بها. فقد جاء في صدر القرار ما يلي: "حيث أثير الطعن بعدم الدستورية أثناء محاكمة كما تبين من منطوق القرار 03/2023 الصادر بتاريخ 13/02/ 2023 عن المحكمة المختصة في الجرائم المتعلقة بالفساد ومنح مقدمه أجل 15 يوما لإشعار المجلس الدستوري وفقا للقانون.
وحيث قُدم الطعن بعدم الدستورية أمام المجلس بتاريخ 27/02/2023 مما يعني تقديمه في الأجل القانوني.
وحيث إن طلب الطعن موقع من طرف الطاعن ودفاعه الذي أرفق وكالة خاصة لهذا الغرض، ووجّه عريضة إلى كتابة المجلس الدستوري
وحيث تبين أن الطعن جاء في أجله القانوني وممن له الحق فيه؛ مستكملا شروط القبول، لذلك فإنه مقبول شكلا طبقا للمادة 86 (جديدة) من الدستور والمادة 4 من القانون النظامي 2018/ 013 بتاريخ 15 فبراير 2018".
وهذه شهادة من المجلس الدستوري في حق هيئة الدفاع نهنئ عليها أنفسنا لأنها تبرهن على التحلي بدرجة عالية من المهنية واليقظة والالتزام!
ثانيا: وفي الأصل، فلا جدال في أن طعننا كان منصبا أساسا على المادة 16 من قانو مكافحة الفساد؛ وهي واسطة عقده، وذلك لسببين جوهريين:
السبب الأول: هو أولا، فساد وخطورة تلك المادة التي تُحوّل عبء إثبات الجريمة من النيابة العامة إلى المتهم، فتكلفه بإثبات براءته ومشروعية مصدر أمواله؛ الأمر الذي يهدد السلم الاجتماعي فيفتح الباب على مصراعيه لتوريط الناس - كل الناس- وتصفية الحسابات بجميع أنواعها، ويلغي مبدأ استصحاب قرينة البراءة الفطرية؛ وثانيا، مخالفتها لصريح المادة 13 من الدستور التي تنص على أنه "يعتبر كل شخص بريئا حتى تثبت إدانته من طرف هيئة قضائية شرعية" وللفقرة قبل الأخيرة من المادة التمهيدية من قانون الإجراءات الجنائية، ولقواعد الشريعة الإسلامية التي هي قواعد فوق دستورية: كقاعدة استصحاب الأصل المؤصلة بالحديث الشريف «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي» وقاعدة "اليقين لا يزول بالشك" وقاعدة "الأصل براءة الذمة" وقاعدة درء الحدود بالشبهات.. إلخ؛ فضلا عن تعارضها مع جميع الإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وجميع الفقه الدستوري والقضائي المقارن، ومع نص وروح الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي تنص في مادتها الخامسة على خضوعها للمبادئ الأساسية للنظام القانوني للدولة الطرف. (وقد تم تفصيل ذلك في عريضة طعننا المتوفرة).
والسبب الثاني: كون الاتهام بنيابته وشرطته ودفاعه وتحقيقه لا يملك من بينة ضد موكلنا رغم جميع ما قام به من "تحريات" في الداخل والخارج وهرج ومرج، سوى ما ورد في تلك المادة من قلب لعبء البينة. وقد تجلى ذلك في أوضح صوره في حيثيات أمر الإحالة التالية المنسوخة حرفيا من تصريحات النقيب الصحفية:
"حيث إن استغلال عدة تصريحات صحفية علنية سابقة في مناسبات مختلفة للمتهم محمد ولد عبد العزيز من خلال محاضر تنفيذ جزئية لإنابات قضائية أصدرها قطب التحقيق، أثبت أن المتهم صرح في بعض التصريحات في بداية مأموريته الأولى، أنه لا يملك المال، وفي تصريحات لاحقة عقب خروجه من السلطة صرح بأنه يملك ثروات كبيرة، وفي بعض تلك التصريحات أيضا صرح بأنه لم يستهلك أوقية واحدة من راتبه الشرعي الذي يتقاضاه بصفته رئيسا للجمهورية.
حيث إن هذه التصريحات العلنية في وسائل الإعلام، المثبتة قضائيا على النحو المذكور آنفا تثبت ثراءه الكبير غير المشروع، أثناء فترة حكمه؛ إذ كيف يحصل موظف عمومي يمنع عليه الدستور ممارسة أية وظائف أخرى على أموال طائلة باعترافه في تصريح صحفي علني، بعد أن كان وباعترافه العلني أيضا لا مال له، دون أن يستثمر أوقية واحدة من راتبه المشروع، إن لم يكن ذلك من خلال ارتكاب وقائع يجرمها القانون.
حيث إن المادة 16 من قانون مكافحة الفساد تنص على أن أي موظف عمومي لم يستطع تقديم تبرير للزيادة التي طرأت في ذمته المالية مقارنة بمداخيله المشروعة، يعتبر مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، وهو ما يعرف قانونا بالإثبات العكسي، أي أن عبء الإثبات في هذه الحالة يرجع إلى المتهم، فهو من عليه إثبات مصدر شرعي لثروته الطائلة.
حيث إنه من كل ما سبق يثبت بالأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك، نسبة تهمة الإثراء غير المشروع للمتهم محمد ولد عبد العزيز.
حيث إن ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم". (الصفحتان 24 و25 من أمر الإحالة).
وإن محورية هذه المادة التي تتسم بالفساد والخطورة من جهة، وبكونها - من جهة أخرى- تشكل سلاحا لا غنى عنه لسلطة الاتهام في تمرير مؤامرتها السياسية ضد موكلنا التي يتوقف على نجاحها كل شيء، وتَعَبَّأَ في خدمتها جميع إمكانيات دولة التعليمات؛ كل ذلك جعل التعامل مع طعننا في دستورية تلك المادة معضلة كبرى وخيارا صعبا: فإما أن تقف مع المصلحة العامة والدستور، وإما أن تعيش اللحظة كغيرك!
وقد اختار المجلس وقرر!
صحيح أن رئيس المجلس شخص محترم ومستقيم، وله - دون غيره من المتكلمين - دراية واسعة بالقانون الدستوري! ولكن يجب أن لا ننسى أن المجلس لا يتكون من رئيسه فحسب؛ بل يضم - إلى جانب الرئيس- تسعة أعضاء، خمسة منهم يعينهم رئيس الجمهورية (يقترح زعيم مؤسسة المعارضة أحدهم) وعضو يعينه الوزير الأول، وثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الجمعية الوطنية؛ اثنان منهم يقترح أحدهما ثاني حزب معارض، ويقترح الثاني ثالث حزب معارض.. وغالبا ما قدم معيار الولاء على غيره!
فمن أين إذن سيأتي إنصاف الحق وطعن الرئيس محمد ولد عبد العزيز من بين هذا الكوكتيل؟!
ولعل ذلك هو ما جعل المجلس يحجم في قراره عن مناقشة حججنا الدامغة والرد عليها، ويستغل شططا نهائية قراراته، فيأتي بحيثيات غامضة كحيثيات غرفة الاتهام، يصعب فهمها حتى على من صاغها، وتؤكد كلها مخالفة المادة المطعون في دستوريتها للدستور، ثم يقول من فراغ: "وعليه فإن ما أثار الطاعن من عدم دستورية هذه المادة غير مؤسس قانونا".
لقد ذهب الإحراج بمحرر قرار المجلس إلى حد عدم ذكر حججنا ونقاشها وذكر المادة الدستورية التي ندفع بها والأحكام القرآنية والأحاديث النبوية التي أدلينا بها، والفقه الدستوري والقانوني المقارن الذي تقدمنا بنماذج منه من بينها قرارات سابقة صادرة من المجلس نفسه.. واكتفى في منطوق قراره بالقول: "إن المادة 16 من قانون مكافحة الفساد لا تخالف الدستور" بينما علل ما ذهب إليه حول المادتين الأخريين في منطوق قراره!
ونحن على كل حال، نهنئ أنفسنا، ونهنئ الترسانة القانونية والمؤسسة القضائية على ما أنجزناه من إطاحة بالمادة 47 من قانون مكافحة الفساد التي شرعت رشوة القضاة جهرا!
لقد كنا متأكدين قبل أن نطعن من رفض المجلس الدستوري لطعننا بعدم دستورية المادة 16! ورغم ذلك فقد قمنا بالطعن دفاعا عن مصلحة موكلنا، وعن المصلحة الوطنية العليا، وعن أحكام الدستور. ولن نألو جهدا في القيام بأي إجراء تَعَيّن من شأنه أن يكشف خفايا هذه القضية، ويضيف لبنة - مهما كان حجمها- إلى صرح دولة القانون بعيدة المنال التي نصبو إليها.. والتي هي آتية لا ريب فيها!