تذكرة بلا عودة... عن حديث ولد لكويري المضيف الوح الناجي من حادث طائرة تجكجة المأساوي.
هذا بودكاست( حلقة من تكملة تستضيف خبير الطيران المدني محمد ولد المين ولد لكويري؛ المضيف الناجي من حادث طائرة تجكجة) يعني لي الكثير لأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية؛ سأتحدث عن نزر قليل من الذاتي؛ لأسباب شديدة الخصوصية.
وأما الموضوعي فسيكون هو جوهر هذه التدوينة السريعة.
===
تربطني بخبير الطيران المدني محمد ولد المين ولد لكويري علاقة أدبية نُسجت منذ فترة؛ حين جمعتني به تجربة كتابة شهادته وتجربته عن الطيران المدني الموريتاني الذي دخله مطلع ثمانينيات القرن الماضي؛ وأثناء عمره المهني تدرج فى الخطوط الجوية الموريتانية حتى لفظت المؤسسة أنفاسها؛ ليتحول في أواخر مساره المهني كخبير طيران ومؤطر عمال الخدمة الجوية فى الموريتانية للطيران؛ والوكالة الوطنية الطيران المدني.
===
ظلت سنوات الفتى كويري -كما يطلق عليه في أوساط كبار المسافرين - تمر برتابة مضيف طيران لم تعد الرحلات الجوية تمنحه شغف السفر الذي عادة ما يتملك رجل الصحراء في رحلات الجو.
وفى صبيحة فاتح يوليو 1994؛ أكمل ولد اكويري إجراءات رحلة الخطوط الجوية الموريتانية، المنطلقة من نواكشوط صوب تجكجة؛ تلك الرحلة التي ستنتهي بكارثة جوية مازالت نارها متقدة في نفوس أهالي و محبي ركابها.
قبل التاسعة صباحا من يوم جمعة قبل تسع وعشرين سنة مضت؛ تحطمت طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية الموريتانية من طراز Fokker 28؛ اندلعت النيران في هيكل الطائرة بفعل اصطدام مقدمتها بصخرة على مدرج المطار.
استشهد أغلب ركاب الطائرة؛ إذ لم يكن فى مطار المدينة البعيدة أي وسيلة إنقاذ ولا وسائل أمان.
وعن هذه الجزئية؛ يقول الشاعر الكبير الدكتور أدي ولد آدبه في مرثيته لشهداء الحادث الأليم (تضاريس مأساة):
لا تَسَلْ.. فالرُّكابُ ماتـُوا.. جَميعًا عِـنْدَمَا حَـانَ - في المَطـار– النُّـزولُ
شَبَّ فيها الحَريقُ.. والكُـلُّ يَرْنُـو لا مَطـافِي.. إلا الدُّمـوعُ.. السُّيــولُ
هَـلَكُوا.. والأحْضانُ تهْفــو إليهمْ أيْنَ - لا أيْـن – للنجـــــاةِ سبـــــــيلُ؟
===
عملت مع الروائي الكبير امبارك بيروك على كتابة شهادة ولد لكويري.. عن المشاهدات والانطباعات؛ عن الذكريات المؤلمة والشهادات التي رآها بأم عينيه؛ ووثقنا العمل في كتاب سيبصر النور قريبا؛ تولى بيروك كتابة نصه الفرنسي؛ وحاولت أنا كتابة نسخته العربية.
===
قادتني جلسات العمل على الكتاب، إلى اكتشاف الجانب الإنساني في شخصية ولد لكويري؛ وخلال عشرات الساعات من الاستماع التي منحنا بمعية الأستاذ بيروك؛ غاص الستيني الناجي من أحد أخطر كوارث الطيران المدني في موريتانيا في تلافيف ذاكرته؛ ورغم أن جراح الحادث العضوية قد اندملت؛ إلا أن جراح الروح مازالت مفتوحة.
لقد ظلَّ يسمعُ بوضوح -حتى اليوم- أنين الضحايا؛ طالبين مد يد الإنقاذ؛ تلك اليد التي لم تسعفهم جميعا؛ رحمة الله على أرواحهم.
يقول الدكتور أدي:
كلُّ عيْنٍ تَزُوغُ فِي الأفْقِ ..حَـيْرَى فـتَرَى الـرُّوحُ - في الدُّموع - تَسيـلُ
كلُّ قَـلبٍ .. يَـمُور- بالفجْـع- مورا فتَـرَى ذَبْــذَبَـــــاتِ حُزْنٍ .. تجـــولُ
في وُجُـوهٍ .. تُـذِيـبُـها حَسَــــراتٍ وانْصِهـــارٌ .. تـَوَتُّرٌ .. وذهــــــــولُ
با لدُّعــا غَصَّت الحَنــاجِـرُ ..حَتَّى ذابَ فيها الـدُّعا .. ومـــاتَ العَـــويلُ
والثـَّوانِي الثـكْلَى .. تَمُـرُّ .. سِنـينًا آدَهَا اليـَأسُ .. والرجـا المُسْتحـــــيلُ
فـوْقَ كُـلِّ الشـفـاهِ .. ظـلَّ سُــــؤالٌ خــائـِفٌ .. مِنْ جَوابـه .. لا يَقــــــيلُ:
أيْنَ أمِّـي .. أبِي ..أخـِي ..أيْنَ إبْنِي؟ فُجِـعَ الكُـلُّ .. سائـلٌ .. ومَسُـــــــولُ
===
بذكائه الفطري فهم ولد لكويري علاقتي بقصته؛ إذ لم تكن مأساته وحده، مأساة مئات العائلات الموريتانية التي فقدت في دقائق أرواحا كانت تشع بالطيبة والحب والألفة.
مأساة تضاريس تُعبر أكثر عن الفاجعة:
كمْ جَـمَالٍ .. وكمْ شبابٍ .. وأحْـلا مٍ .. ومَـجْدٍ .. أحْرَقْـتَ .. يـاعزْرَئيـلُ!
لـيسَ بيْن الحيـــاة والـموتِ .. إلا حاجِز - عِنْـدَما يـُـزاحُ – ضئــــــــيلُ
إنَّ حَدْسَ الإنْسانِ في ظُلْمَةِ الغــيــــــب .. جَهُــولٌ .. ومُعْتِـمٌ .. وكَـلـــــــيلُ
ليْتَ شِعْرِي من كان يحسب هذي رحْـلة العُمْـر .. مـا وراهـــا قـفــولُ؟!
رَحَلـوا.. يَسْتَحِثُّهـمْ ألْـفُ شَــــوْقٍ فانْتَفَى الوَصْلُ .. حيْثُ حـانَ الوُصولُ
حَلَّقـوا .. نحْوَ أهْلهمْ .. ألْـفَ مِيـلٍ وصَلـوا .. فابْتَــدَا المَدَى يَسْتَــــــطيلُ
====
كنت مشدودا لكل كلمة ينطقها العزيز ولد لكويري؛ وأحيانا أشرد قليلا بفعل عطب أصاب روحي؛ حين أفكر أن هذا الرجل الذي يجلس أمامي -بملامحه الطيبة وصوته المعهود كأنه أحد أفراد أسرتي - بالتأكيد ألقى التحية لأحبتى؛ وأنه ربما ابتسم لعمي الذي يعرفه حق المعرفة؛ حين دله على مقعده بقرب أخيه وابنة أخيه..
يالله ...
شُهَـداءَ المَطـارِ .. مَنْ ظَـلَّ حَــيًّا يَـوْمَ مِتّـمْ .. فـــــذاكَ صَـبْرٌ جَمــــــيلُ
كلُّ مَنْ مَاتَ.. جُرْحُـهُ في فُؤادي لـجِـــــراحـاتِ فَـقْـدِ ( نَجْدِ)
===
استحث ذاكرة المتحدث اللبق الذي ينفث دخان غليونه التقليدي المرصع بنجوم متناهية الصغر؛ وكأنها تذكره بنجوم شعار الطائرة التي سحقني خبر تحطمها ذات عطلة مدرسية وأنا لا أزال أرفل في سنين الصبا؛ صبا مر سريعا كاندلاع حريق تلك الطائرة؛ استجديه وأتوسل لذاكرته أن تسعفني بذكرى؛ بسؤال طرحته شقيقتي عليه!
عن كوب ماء طلبه عمي أو ابن عمي.. أي شيء؛ فأنا على يقين أنه شاهد وجوههم جميعا قبل أن تفقد ملامحهم نضارتها.
رحَمَـاتِ الإلـهِ .. شُـدِّي قُـلــــوبـا أوْشَكَـتْ .. عَنْ مَنــــــاطِها .. تستقـيلُ
وامْطِـري ذلكَ الضَّريـحَ الجماعي إنَّ خَيْـرَ الكِــــــــــرام .. فيـه حلـــــولُ
وافـتحِـي .. يا جَـنَّاتِ عَدْنٍ مَطارًا يَـنْـتَهِـي فِيـهِ .. بالضحــــــايا .. الرحيلُ
هَيِّئِي كُـلَّ مُسْتَطـابٍ .. لرَكْـــــبٍ دُونك اليَـوْمَ .. لمْ يَـرُقْـهُ المــــــــــــقيـلُ
====
شكرا لبودكاست "تكملة" الذي يعده ويقدمه أخي الشيخ محمد حرمة عبر صفحة صحراء ميديا
والشكر لأخي وصديقي محمد ولد المين ولد اكويري على كل شيء، وعلى منحي شرف كتابة تجربته وسيرة عمله؛ والشكر للعميد بيروك الذي شرفني بكتابة إسمي بالتوازي مع اسمه الأدبي المشع.
===
رحم الله جميع ركاب طائرة تجكجة؛ وألهم اهلهم الصبر والسلوان؛ وإنا لله وإنا إليه راجعون.
يا إلهِـي .. إنِّي تَفَجَّــرْتُ .. شعـرا فاعْفُ .. يــا رَبُّ .. لا أعِـي مـا أقـــولُ
اعْـفُ .. يا رَبَّـنَـا .. فمَهْمَـا فُجْعْنَـا مــا لَــدَيْنـا إلا الــرِّضـا .. والقَـبــــــولُ
ولنـا ..في الرَّسـول .. خيْـرُعَـزاءٍ حَسْبُنا في العَـزاءِ : مــــــــات الرسولُ