من أكثر العقبات التي تعاني منها حركات التحرر الاجتماعي هي الصدّ والقمع وعدم احتواء دعوات أصحابها، وهو أمر يدفع بهذه الحركات إلى مزيد من التشبث بالمطالب وحتى الشطط في السعي لتحقيقها.
ولئن كانت بداية حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بداية تعافٍ من التوتر السياسي، ومرحلة جسرتِ الهوة بين الساسة المتخاصمين حدّ القطيعة، فإن الحركات الاجتماعية المطلبية كانت هي الأخرى محل اهتمام واحتواء لم يفت على الناشطين الحقوقيين الذين يسعون لرأب الصدع الاجتماعي، ويتطلعون لمستقبل يجدون فيه صدى لأصواتهم وتلبى فيه مطالبهم من أجل تحقيق تساوي الفرص وتقليص الفوارق الاجتماعية.
فعندما نعود لافتتاح مهرجان مدائن التراث في أكتوبر 2022 بوادان نجد أن رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني خاطب العامة بخطاب كان إلى العهد القريب من المحذورات التي يمنع الحديث فيها حتى من قبل الحقوقيين أحرى أن يصدر ذلك عن رأس الهرم والمسؤول الأول في الدولة، لقد عبر الرئيس صراحة: "أن مما يحز في نفسه كثيرا ما تعرضت له فئات معينة من ظلم تاريخي ونظرة سلبية" بالرغم من أنها – كما يقول الرئيس – "في ميزان القياس السليم ينبغي أن تكون على رأس الهرم الاجتماعي؛ فهي في طليعة بُناة الحضارة والعمران وهي عماد المدنية والابتكار والإنتاج".
ويؤكد انطلاقا من موقعه - كرئيس - أنه "آن أوان لتطهير الموروث الثقافي من رواسب الظلم الاجتماعي الشنيع، والتخلص نهائيا من الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تناقض الحقيقة وتصادم قواعد الشرع والقانون، وتضعف اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية، وتعيق تطور العقليات" وذلك في نظره اتساقا مع ما يقتضيه مفهوم المواطنة الجامعة، ويمليه دور الدولة التي ترعى مصالح الجميع، وتقتضيه روح القانون الذي يجب أن يكون الجميع سواسية أمامه.
لقد تفاجأت كمواطن – ينحدر من فئات الهامش – من خطاب رئيس الدولة؛ فاجأتني الدقة في التوصيف، والصراحة في الاستنكار، والانطلاق من المسؤولية الوظيفية التي يتمتع بها رئيس الدولة تجاه القضاء على هذه الفوارق الاجتماعية والمظالم التاريخية.
ومما لفت نظري بعد خطاب رئيس الجمهورية مباشرة هو دوَران تغطية الإعلاميين الذين يغطون الحدث والمعلقين الذين يواكبونه في نفس الدائرة التي رسمها خطاب رئيس الجمهورية، حيث انصبّ تركيزهم على الاستطراد بنفس القاموس، والاحتفاء بالدور الذي لعبه الصناع التقليديون في بناء الدولة الموريتانية وما يستحقونه بالمقابل من اعتراف! وما حدث مع هؤلاء الإعلاميين والمعلقين يترجم القول المأثور "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"! فعندما توجد الإرادة لدى رأس الهرم فإن القاعدة سوف تذعن وتساير.
وقد تعزز هذا الخطاب بخطوة رمزية تفصح عن مظهر آخر من مظاهر لإقصاء الثقافي بحق فئة اجتماعية أخرى من مجتمعنا ظلت مغيبة هي الأخرى، خصوصا في مناسبات الاحتفاء بالإرث التاريخي المتنوع لمجتمعنا، وذلك من خلال حضور رئيس الجمهورية لتظاهرة جماهيرية خاطب فيها أصحاب هذه التظاهرة بلغتهم المفهومة كتعبير عن القرب والسعي في رأب الصدع.
ولم يتوقف الأمر عند الحضور الرمزي للرئيس لتلك التظاهرة الثقافية، وإنما بتبني خطوة عملية تمثلت في "مهرجان جول "، وهو مهرجان يعترف بالحضور الثقافي التاريخي في المنطقة لهذه المكونة الاجتماعية، وقد جرى على منواله في هذا الاعتراف والتثمين بالدور التاريخي لهذه الفئة المغيبة ثقافيا جيش الصحافة والمعلقين الذين طفقوا يتغنون بالأمجاد والمآثر التاريخية لهذه المدينة وساكنتها، وهو اعتراف غُيّب طويلا لولا لفتة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، إذ كان يقتصر إحياء المدن التاريخية على مدن معينة دون أخرى، بما يعنيه ذك من تمييز اجتماعي ثقافي موغل في الإقصاء والتمييز، وهو أمر وضع له الرئيس حدا بهذه الخطوة، وأضاف من خلاله لبنة جديدة من لبناتِ "الإنصاف" و"الاعتراف" وهي خطوة لم يسبق إليها وتسجل في إطار السبق السياسي لرئيس الجمهورية.
ولقد كان لـ"وثيقة نداء جول" التي وقع عليها رئيس الجمهورية ومن بعده رئيس الحكومة وأعضاؤها، وإلزام "نخب" و"قوى المجتمع" على الاعتراف بها تأكيد آخر لا يقل أهمية عن الحدث نفسه حيث انبثق عن مهرجان "جول" وثيقة رسمية تدعو "للانخراط في ديناميكية وطنية جامعة هدفها المساهمة العملية والإيجابية في تكريس مشروع التحول المجتمعي الآمن من أجل بناء دولة العدل".
وحين جاء الاستحقاق الانتخابي ترجم الحزب الحاكم تلك "الكلمة" التي اعترف فيها رئيس الجمهورية بالمظالم الاجتماعية، وذلك من خلال إشراك عملي لصالح جميع فئات الهامش تمثل في الترشيح في صدارة اللوائح الانتخابية الرئيسية، وهو "اختراق" يسجل في سجل "السبق" لرئيس الجمهورية الذي برهن على صدق نيته في تبني سياسات تمييز إيجابية لصالح فئات الهامش، في تحدٍّ صارم للممارسات المسلّم بها في تكريس النفوذ لصالح المتنفذين التقليديين دون غيرهم.
إن انطلاق رئيس الجمهورية من قناعة تجعله يتحدث وبشكل جليّ عن المظالم الاجتماعية، وسعيُه بشكل عملي لمعالجة تلك المظالم يبرهن وبجلاء أن التغيير الذي يسعى إليه دعاة الحقوق تبناه رئيس الجمهورية نفسُه، بل واستطاع أن يجسد ذلك من خلال خطوات عملية تمثلت في الإشراك السياسي الفاعل، والاعتراف بالموروث الثقافي لبعض فئات الهامش التي كانت مغيبة بشكل ممنهج، ومن باب الاعتراف بالجميل من قبل المهتمين بالهمّ الاجتماعي من الوارد الإشادة والتنويه بهذه الخطوات التي قام بها رئيس الجمهورية.
إن دعوتنا للإشراك السياسي، ليست دعوة شرائحية كما يحلو للبعض تسميتها، ولا دعوة للمحاصصة مثل ما يحاول المناهضون قمعها، وإنما هي دعوة لاستصحاب ضرورة الإشراك والتمكين للجميع، لا قصر خيرات البلد على مجموعات دون أخرى تتخذ من المال والسلطة والنفوذ دُولة بينها. والحق أن المعترضين على "الشرائحية" ينطلقون من مبدإ سليم في حال نحت منحى سلبيا يوغل في التفرقة على حساب الجمْع، فعندما تقوم الدولة بمسؤولياتها في تمكين العدالة، والإشراك في الثروة وتسيير الشأن العام، وتحقيق المساواة في الفرص، ستقطع الطريق على دعاة الحقوق وتوفر عليهم عناء النضال، وما لم تقم الدولة بذلك تظل دواعي رفع الصوت واجبة.
ولأن رئيس الجمهورية حمل هذا الهم أصالة عن نفسه كمسؤول أول عن حقوق الناس، ونيابة عن المكتوين بنير التمييز والتطفيف، وسعى في تجسيد سياسات عملية لمعالجة ذلك، فإن واجب دعاة الحقوق الاعتراف بهذا الدور والسعي في وضع أيديهم في يد الرئيس والعمل معا في رأب التصدعات، وعدم توسيع الخرق على راتقه.