عندما هدد "كريستوف كولومبس" الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا بأنه سيسرق القمر منهم إذا لم يمنحوه الطعام الكافي لبقائه وطاقمه على قيد الحياة لم يصدقوه نظرا لكونهما مسألة فوق استطاعته.
وصادف أن الفلكيين المرافقين له أخبروه بأن خسوفا سيحدث للقمر خلال أيام قليلة.
وعندما غاب القمر جاء الهنود الحمر المساكين يتوسلون كولومبس إعادته إليهم متعهدين بتنفيذ الأوامر حرفيا وبتصديقه في كل أمر.
وفي الليلة التالية عاد القمر مكتملا.
بعد تنظيم أيام تشاورية وطنية اقترحت اللجان المشاركة والتي تضم مختلف أنواع الطيف السياسي تعديل بعض مواد الدستور الموريتاني بما يتلاءم مع واقع البلد وتطلعاته فأخذت الدولة بمخرجات الحوار الوطني وقررت عرض تلك التعديلات الدستورية على غرفتي البرمان والشيوخ فتمت الإطاحة به من قبل الأخيرة ليقرر رئيس الجمهورية عرضه على استفتاء شعبي بعد تأكد مطابقة مشروعية الخطوة من وجهة النظر القانونية من قبل فقهاء القانون الدستوري فقام أصحاب التنجيم السياسي تماما كما فعل كولومبس يهددون بالإطاحة بمشروعية الاستفتاء عن طريق المقاطعة ويحذرون الشعب ويخوفونه من سرقة آراءهم تماما كما سيسرق كولومبوس القمر وربما قد يركزون على بعض الخروق هنا أو هناك تماما كالكسوف المؤقت لكن وتيرة رتيبة ناجحة للاستفتاء نتأملها قد تبدد كل تلك المخاوف.
لقد راهن كولومبس على اعتقاد القوم بالخرافة تماما كما يراهن المرجفون على عدم وعي ثقافة الشعب الموريتاني وهو رهان في غير محله تماما فما يخفى على دعاة المقاطعة أن الموريتانيين ليسوا هنودا حمرا وأن سماءنا السياسية لا تزال لياليها بيضا وقمرها مشع وفي أوج اتقاده أيضا.
فرغم أن الاستفتاء الدستوري المعدل لا يمس جوهر النظام الديمقراطي ولا يعدل فترات المأمورية الرئاسية ولا يحد من الحريات العامة للمواطنين ولا يكرس الدكتاتورية ولا يعيد العمل بنظام الطوارئ وإنما فقط يتعلق بالإطار الخارجي للدولة ويعيد هيكلة النظام التشريعي ويلغي محكمة العدل السامية نتيجة تشابك مهامها مع بعض المؤسسات المشابهة. فرغم كل ذلك هناك تنجيم سياسي بصوت مرتفع.
إن المعارضة الإيجابية للتعديلات والمتمثلة بالمشاركة والتصويت بلا هي في حد ذاتها ظاهرة صحية وأمر تكفله الأعراف الديمقراطية وهي تعبير راق عن مستوى من التعاطي مع الشأن السياسي العام لكن المعارضة السلبية المتمثلة في المقاطعة وعدم المشاركة في التعبير عن الرأي حتى لو كان بالرفض فهي تعاط غير مسؤول مع المتطلبات التي تفرضها المواطنة والمتمثلة في إسداء النصح لمجموع المواطنين ولكي يتسنى معرفة من هو راض عن هذا الأمر ممن هو رافض له.
فمتى كانت السلبية عاملا مؤثرا؟
ومتى كان الانطواء السياسي ذا أهمية تذكر؟
وهل هناك مقاطعة جلبت مصلحة عامة؟
في الثلاثين من يناير سنة ألفين وخمسة نظمت انتخابات ثلاثية في العراق لاختيار الجمعية الوطنية والمجلس الوطني لإقليم كردستان ومجالس المحافظات ونظمت الانتخابات في ظل سلطة الاحتلال الأمريكي للدولة العربية وكانت أول انتخابات تعددية في البلاد منذ ما يقرب ستة وأربعين عاما فما كان من الديوان السني بالعراق إلا أن نصح بعدم المشاركة حتى لا تكون المشاركة إضفاء للشرعية. وكان القرار خطئا سياسيا كبيرا لم تزل الطائفة تدفع ثمنه إلى يوم الناس هذا.
كان ذلك للعراق الدولة التي تم احتلالها من طرف قوة خارجية فترتب على السلبية في التعاطي مع شأنها السياسي كارثة خسر من خلالها معظم الشعب ممثليه في البرلمان والحكومة فكيف ونحن في موريتانيا الدولة المستقلة الديمقراطية ذات النظام التعددي والتي تدار من قبل حكومة وطنية فازت بانتخابات شفافة شهد لها العالم أجمع.
ليس من الحكمة أن تتعاطى المعارضة في كل نازلة سياسية بالقطيعة حتى لو كانت النتائج التي ستحصلها لن تأتي لصالحها فالمشاركة بحد ذاتها رهان سياسي سيحصد نتائج مهما كانت ضآلتها وسيقلل من حجم الحظوة المعطاة للطرف الفائز أيا كان وبالنظر للاستفتاء المنشود فإن الهدف المعلن من طرف المعارضة هو الإطاحة بشرعيته وهي بسلبيتها تلك لن تعطل شرعية الاستفتاء بقدر ما ستقلل من شرعيتها هي نفسها كأحزاب وطنية جعلت من منسقيتها تجمعا غير معني بقضايا البلد ولا بتفاعلاته السياسية.
إذا كانت فعلا تريد الإطاحة بالاستفتاء فإن المشاركة بكثرة هي أنجع سبيل من أجل تحفيز الجماهير على التصويت بالرفض لكنها ونتيجة لهشاشة ثقلها السياسي فضلت أن تظهر كطرف خفيف ذي صوت عال ونداء مستهجن.
فلم يكن الاستفتاء أول استفتاء يدار في البلد فقد سبقه الاستفتاء على الدستور الحالي المراد تعديله حيث تمت إدارته بنجاح وبشهادة مراقبين دوليين شهدوا بشفافية العملية الانتخابية في موريتانيا تلك الدولة الفتية التي تعطي مثالا باستمرار على علو باعها في تنظيم اقتراع في ظروف استثنائية.
والمشاهد للساحة السياسية والتحركات التي تدعمها أحزاب المعارضة والنشطاء المغردون والمدونون على صفحات التواصل الاجتماعي يلمس مبررات سطحية لعدم المشاركة والدعوة للسلبية كما سيشهد شعارات تحبيطية تدعو للركون وعدم التعاطي مع الحدث فمن هاشتاك (#مان_زارك) إلى (#اليوم_الوطني_للنوم) نداءات من ضمن أخرى تهدف لكبح الدعاية للاستفتاء وهي غيض من فيض من دعوات تسوق لفكرة أن الأولى من هدر النفقات على الاستفتاء هو شق الطرق ومساعدة الفقراء لتكشف عن نمط من التدني في المستوى التفاضلي وعدم التوفيق في ابتداع متقابلات قابلة للمقارنة.
إن الدفع بحجج واهية لا علاقة لها بالواقع ليست السبيل الأمثل للتأثير في جمهور الناخبين فالشعب الموريتاني بكل أطيافه دأب على ممارسة الحق السياسي والمشاركة في الانتخابات بكثرة وهو ما شهدناه في جميع الانتخابات السابقة.
ويركز معظم المخالفين لعملية الاستفتاء نشاطهم الدعائي المضاد في فضاء التواصل الاجتماعي بوسائطه وتطبيقاته المتعددة خاصة أن الفضاء يسمح لهم بالتنسيق ويتيح لهم ميزة التواصل في حالة تخطيطهم للحشد.
كما يجعلون من وسائل التواصل أيضا منبرا خارجا عن نطاق القيم المجتمعية من حيث انتقادهم اللاذع للمخالفين في وجهة النظر وهو ما يدعو لطرح تساؤل عن مدى مطابقة هذا الفضاء الاجتماعي للمتطلبات الأخلاقية التي تمليها كل الأعراف والقيم السمحة.
وإلى حين البدء في عملية الاقتراع والتي ستسبقها فترة دعاية للتعديلات الدستورية وقبل أن يحدث الصمت الانتخابي ستبقى الساحة السياسية مسرحا وثيرا للتجاذبات المختلفة الداعمة للمشاركة في الاستفتاء من جهة وتلك الداعية للتغاضي والتعامل معه بخمول.
إلا أن الساعين لانتزاع شرعية الاستفتاء من خلال حملاتهم الداعية لكل تلك السلبية قد يتفاجؤون بأن الرهان الذي اعتمدوه والخيار الذي انتهجوه لإقناع الناخبين الموريتانيين بعدم التصويت مجرد رهان خاسر.