على مدار الساعة

علّمني الحج

30 يونيو, 2023 - 12:06
كتبه: أحمد الوافي من مكة المكرمة

الحج ركن من أركان الإسلام والحج رحلة العمر ومشهد مصغر من مشاهد الآخرة ومدرسة عظيمة يتخرج الإنسان المنتبه منها بفوائد عظيمة وعبر جليلة وتأملات في الحياة يوحي بها الحج وما يكتنفه من ظروف ومشاعر وشعائر ولقد علّمني الحج ما يلي:

 

أولا: إن طابع التيسير في الفقه الإسلاميّ ملحوظ جدا في فريضة الحج فيكاد يقوم عليها بدءا بوجوبه فهو في نطاق الاستطاعة ومرورا بتفصيلاته ففقهه مبني على "افعل ولا حرج"، وختاما بكثرة الأجور المترتبة عليه فهو حياة جديدة وفرصة لدخول الجنة عبر أقصر الطرق.

 

ثانيا: العبادات في الاسلام مقترنة بالأخلاق الحسنة وخصوصا الحج، فأركان الإسلام كلها مرتبطة بالأخلاق فالعقيدة؛ قال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}، فهذا وإن كان سدّا للذريعة فهو نفَس أخلاقي كبير، وفي الصلاة؛ قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وهذا توجيه رباني للابتعاد عن عالم التفاهة والرذيلة، وفي الزكاة؛ قال تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، والتطهير هنا تطهير من الشح والبخل وهما من أخسّ أمراض القلوب.

 

وفي الصوم، يقول رسول مكارم الأخلاق ومن هو صاحب الخلق العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عن أبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ اللَّهُ – تعالى - كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ". وفي رواية قال: "فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ" (رواه البخاري).

 

وعند مسلم: "فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ".

 

وعند ابن خزيمة: "وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ". ولفظه عند أحمد: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا، فَإِنْ جَهِلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ آذَاهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ".

 

وهذا كله حضّ على ضبط النفس وأَطْرِها على مكارم الأخلاق.

 

وفي الحج؛ قال تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري.

 

فالأخلاق في الحج مدرسة شاملة تبدأ بالسلوك المدنيّ واحترام النظام والالتزام بالقوانين والمحافظة على البيئة والاندماج في البرنامج العامّ والتكيّف مع الظروف والألفة مع مختلف الأحوال والناس، فالحاج يعطي من مروءته وحسن معاملته ويستفيد من أخلاق من يلقاهم إيجابًا وسلبا، فخلاصة الحج قيَما أنه عصارة مكارم الأخلاق من صبر ورحمة وكرم وتضحية وصدق وتحضّر.

 

ثالثا: هنالك جانب من المشاعر المسلمة لا يتدفق إلا في ميدان الحج، فالمسلم الذي ترمق عينه لأول مرة سواد الكعبة وعلوّها وشموخها ومكانتها ليس كمن لم يزرها أو يطف بها (على الأقل شعورا لا تفضيلا) متلمسا آثار الأنبياء والمرسلين ومستلهما تاريخ نزول الوحي وبداية البعثة وفترة التدافع، أما الصعود على الصفا والمروة والسعي بينهما فهو قصة أخرى وحنين لأبي الأنبياء، والاستعداد لمنى وعرفات ومزدلفة والجمرات مزيج من الحب والتعلق والسعادة يذاق ولا يوصف.

 

رابعا: الحج في زماننا رغم تطور الوسائل وكثرتها يزداد كل عام تعقيدا ومشقة فالأحسن أن يحج الإنسان في شبابه أو قوته قبل أن يبلغ من الكبر عُتِيًّا، فيكون صعيبا عليه جدا كما يفعل بعض الموريتانيين، فثقافة الحج مبكرا إلى وقت قريب لم تكن سائدة مع تطور في الوعي فيما يتعلق بهذه الفريضة.

 

خامسا: الحج ليس بكثرة المال ولا قوّة البدن ولا غزارة العلم ولا فخامة الوظيفة وإنما بتوفيق الله واختياره وتلبية القلب قبل سعة ما في اليد، فكم أبصرت عيني من حاج لا يملك سوداء ولا بيضاء، وكم أعرف من الموسرين القادرين الأصحاء الموظفين وهم محرومون من الحج لا يخطر على بالهم ولا يخططون له، وبعضهم قد مات ولم يحج

 

سادسا: إذا أراد الله تيسير أمرٍ هيّأ أسبابه فكم من حاج يقص عليّ كيف حج فأسمع عجبا عجابا من لطف الله وعونه وحفظه ولم يحدثني أحد أكثر من نفسي.

إن الأمور إذا ما الله يسّرها

أتتك من حيث لا ترجو وتحتسب

 

سابعا: الحج مؤتمر عالمي تجتمع فيه الأمة بكل قاراتها ولغاتها وألوانها وأجناسها وأعراقها ومستوياتها، فالكل فقير عند باب الغني، وضعيف عند باب القوي، ومحتاج عند باب الكريم.

 

وهذا المؤتمر فرصة للتطلع على أحوال الأمة، والسؤال عن ظروفها، وتبادل المحبة والأخوة، وتقاسم الآلام والآمال، والدعاء لكشف الغموم والهموم والتواصي على البر والتقوى.

 

ثامنا: الحج ميلاد جديد، وعهد مع الله، وبداية للتغيير وثورة على النفس والشيطان، وقرار بالاستقامة، وتوبة من الماضي، ورجوع إلى الحق، وترك للضياع وانتباه للعمر، ومبادرة للعمل واستفادة من الرحلة والامتحان.

 

تاسعا: الناس طبائع ورضاهم كلهم أو أغلبهم لا يدرك ومشاربهم شتّى، واهتماماتهم متباينة، والصبر على أذاهم وتقديم المعروف لهم هو أفضل وسيلة للتعامل معهم.

 

عاشرا: من حج لله وحده وأصلح ما بينه وبين الله وأكل الحلال وحافظ على الفرائض واجتنب النواهي واشتغل بعيوبه وسعى في منافع الناس فقد فاز فوزا عظيما.

 

كتبه: أحمد الوافي من مكة المكرمة - الجمعة 30/06/2023 الموافق 12/ ذي الحجة 1444