على مدار الساعة

القمح والسلاح تكتيك روسي جديد لإخضاع الغرب على طول ساحل غرب إفريقيا

29 يوليو, 2023 - 21:01
السلطان البان: كاتب صحفي

انقضت أيام قمة سانت بطرسبورغ بدءًا بالصخب الإعلامي الذي أثارته وانتهاء بجدول أعمالها المثقل بملفات سياسية واقتصادية وعسكرية يصاحبه اضطراب سياسي إفريقي، حلّ على مدينة الجسور في روسيا.

 

17 دولة من أصل 49 دولة إفريقية كانت قد وافقت على تلبية الدعوة، من بينهم 10 بلدان مثلت بوزراء أوّل، في حين رفضت 5 دول المشاركة في القمة، وهذا العدد أقل بكثير من مستوى الحضور في قمة سوتشي 2019 التي وصل رؤساء الدول الإفريقية فيها إلى 43 قائدًا إفريقيًّا. هل تضيف قمة "سانت بطرسبورغ" جديدًا في العلاقات بين روسيا وإفريقيا؟ 

 

 

بعد أن تحدثت بعض التقارير قبل سنوات من الآن عن وجود للجنود الروس ومروحيات عسكرية متطورة في إقليم "كابو ديلجادو" المتوتر والغني بالغاز في دولة الموزنبيق، بات ضروريًا مد جسور العلاقات الروسية إلى إفريقيا من أجل منافسة الصين وأوروبا، اللتين سبقتا روسيا بسنوات طويلة.

 

وقد كشف فلاديمير بوتين عن اهتمامه الكبير بالقارة الإفريقية التي منحها لقب "قارة الفرص" في أول لقاء مع القادة الأفارقة سنة 2019 متحدثًا عن تطلعات روسيا في مجالات مختلفة تخدم الجانبين، بعد أربع سنوات من القمة الروسية الإفريقية الأولى في سوتشي، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، والتي انعقدت تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتنمية".

 

جاءت الدورة الثانية من القمة الروسية الإفريقية، ولكن في ظرف حساس ومؤثر عالميًّا، حيث تواجه روسيا تبِعات الحرب الأوكرانية، والانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وهو ما يلقي بظلاله على الدول الإفريقية التي تحاول هي الأخرى التغلب على أزماتها الاقتصادية والسياسية والأمنية عبر نوافذ مختلفة. 

 

لم تأتِ القمة الروسية الإفريقية بكل تطلعات وطموح القيصر الروسي فلاديمير بوتين على الأقل من الناحية العددية، خصوصًا بعد امتناع بعض القادة الأفارقة من الحضور بسبب ما قاله الكرملين من أنه ضغوط غربية لإفشال القمة، ورغم ذلك فقد حضر البعض حضورًا خجولًا تمثل في تمثيل للرؤساء من الدرجة الثانية والثالثة، وهذا يعطي صورة متباينة في نوايا الصف الإفريقي وموقفه من الحرب الأوكرانية، بعض من هذه الدول يخشى الوقوع في ما يغضب أو يعكر صفو الدول الغربية التي تملك نفوذا قويًا في القارة السّمراء بحكم الموروث التاريخي والثقافي والسياسي.

 

لكن في المقابل هناك تغيرات جديدة في الساحل الإفريقي ومحاولات جديدة ناشئة للاستقلالية والانفراد بالقرارات السيادية المتعلقة بالشأن الداخلي بعيدًا عن الفلك الفرنسي التقليدي، يسعى أصحابها بلا شك للاستثمار في هذه القمة، وهي رسالة واضحة لأفول سياسة الاستعمار والتبعية للغرب (فرنسا)، من المهم لهذه البلدان التي تميل لهذه السياسة التحررية إيجاد شريك ثانٍ مع الصين لتوسيع الحركة الاقتصادية رغم البعد الجغرافي وضبابية الرؤية الاستراتيجية لآلية التعاون ومحدودية حصيلة القمة الأولى.

 

 
روسيا تعد الرابح الأول من هذه القمة على الصعيد الدولي، بِعَد إفريقيا ورقة للمناورة السياسية فيما يتعلق بالانسحاب من صفقة الحبوب التي ما زالت تثير غيظ الغربيين. بتر روابط الإمدادات التصديرية لأوكرانيا هدف استراتيجي لروسيا، فإذا ما ضاق الخناق على الشركاء الدوليين وانعدمت البدائل، قد يذعنون لمطالب الكرملين، إلى حينها فإن قرار العودة للاستئناف للصفقة يظل قائمًا، ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم الأهداف الروسية من مد جسور التعاون المشترك في قمة سانت بطرسبورغ. 

 

إفريقيا تتمتع بطاقة استهلاكية هائلة، خصوصًا في مجال الحبوب والصناعات الأخرى، كما تملك مخزونًا كبيرًا من الموارد الطبيعية المتنوعة والنادرة في ثروات المعادن، من يورانيوم وذهب ونحاس وحديد...

 

وهذا يجعلها الوجهة المفضلة لأكبر اقتصادات العالم، لكونها مسرحًا للأسواق الناشئة لتصريف البضائع وكسر الحصار الذي يفرضه الغرب على روسيا من جهة؛ ما يمنح روسيا فرصة الخروج من منطقة الحصار والإذعان للغرب إلى دائرة القوى العالمية المنافسة في قيادة العالم.

 

أما في الجانب الاستراتيجي العسكري وحسب دراسة سابقة لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن روسيا تمكنت خلال العقدين الماضيين من أن تصبح أكبر مصدِّر للأسلحة إلى إفريقيا لتمثل نحو 49% من إجمالي صادراتها إلى القارة السمراء، كما تمثل حصتها نحو 37.6% من حصة سوق السلاح الإفريقية، تليها الولايات المتحدة 16%، وفرنسا 14% والصين 9%، هذه المرتبة المتقدمة مكنتها من إبرام عديد الاتفاقيات في المجال العسكري، وتبادل المعلومات، والتعاون في مكافحة الإرهاب، خصوصًا أن بعض بنود صفقات السلاح تشمل توقيع اتفاقيات في هذا الشأن. 

 

في المقابل لا تقل الاستفادة الإفريقية من قمة سانت بطرسبورغ عن روسيا، فقد قدمت القمة لإفريقيا صورة حسنة في المربع الدولي بوصفها مركزًا جديدًا للصراع العالمي وقطبًا لا يمكن الاستغناء عنه أخرجها من النظرة التقليدية القديمة المستضعفة إلى طرف مفاوض في الساحة الدولية.

 

 وهذا ما ترجمته التنازلات الروسية السخية خلال القمة؛ شطب 92% من الديون الروسية المستحقة على إفريقيا، وهو رقم مالي يناهز 23 مليار دولار، وهي سابقة في فلسفة العلاقات الدولية، خصوصًا أن المجتمع الغربي دأب على سياسة إغراق الدول الإفريقية في الديون لإخضاعها بدلًا من مساعدتها على النهوض.

 

 لكن الخطوة الأكثر دهاءً من روسيا كانت إعلان المساعدات المالية البالغة 90 مليون دولار للبلدان الإفريقية التي تعاني حِملَ الديون الثقيلة التي أفقدتها اتخاذ قراراتها السيادية بشأن العلاقات الخارجية، هذا إضافة إلى توريد 25-50 ألف طن من الحبوب مع تحمّل تكلفة النقل مجانًا لست دول تدور في الفلك الروسي وهي: مالي، بوركينا فاسو، إفريقيا الوسطى، زمبابوي، الصومال، ناميبيا.

 

وهذه المساعدات إن تحققت قد تكون حلًّا مناسبًا لمعضلة الأمن الغذائي التي تواجه دول القارة الإفريقية المهددة بهاجس المجاعة، وفي المقابل ستمنح دفعًا للعلاقات الإفريقية الروسية وتعزز بلا شك موقع روسيا في القارة الإفريقية التي تستورد بـ 50 مليار دولار غذاءها في العام.