أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا والصين يوليو 1965، خلال ظرفية دولية استثنائية يطبعها انقسام العالم إلى معسكرين، وقد حافظت هذه العلاقات على مستوى عال من التطور والتعاون المثمر في مختلف المجالات على نحو يخدم مصالح البلدين الصديقين، حيث ظلا يتبادلان الدعم الثابت في القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية لكليهما، كما تتفق وجهات نظرهما حيال الكثير من القضايا المطروحة على الساحة الدولية، ولذلك فمن الطبيعي وصف العلاقات بأنها "نموذجا لعلاقات الصداقة الصينية الإفريقية". العلاقات التي لم تقتصر على الجانب الدبلوماسي والسياسي فحسب بل اتسعت لتشمل الجوانب الاقتصادية والثقافية والعسكرية، ولا سيما بعد التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الصين، حيث أصبحت ثاني أكبر اقتصاد، وأكبر دولة تجارية في العالم، وباتت تشكل أكبر شريك تجاري لموريتانيا بحجم تبادل تجاري يصل إلى أكثر 2 من مليار دولار سنويا، كما تعتبر الصين من بين أكبر الدول المانحة، والمستثمرة في موريتانيا، إذ يبلغ حجم استثماراتها المباشرة المتراكمة حتى سنة 2022 حوالي 400 مليون دولار أمريكي، كما نفّذت خلال الأربعين سنة الأخيرة نحو 100 مشروع في شتى المجالات، بقيمة تصل إلى أكثر من 1.5 مليار دولار، لذا بات حضورها في الاقتصاد الموريتاني مميزا لما له من أهمية وتأثير مباشر على حياة كل مواطن موريتاني.
أما اليوم فأمام العلاقات بين البلدين فرصة تاريخية للارتقاء بها إلى مستوى علاقات التعاون الاستراتيجي لا سيما في ظل مبادرة "الحزام والطريق"، التي باتت تحدث تغيرات في أكثر من مكان ومجال ترتب عليها تغيير في موازين القوى على الساحة الاقتصادية والتجارية العالمية خاصة في المناطق القارية الجيواستراتيجية التي تزداد أهميتها يوما بعد يوم.
موريتانيا ومبادرة "الحزام والطريق"
مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وطريق الحرير البحري للقرن الـ21 المعروفة اختصارا بمبادرة "الحزام والطريق"، هي مبادرة أعلن عنها الرئيس الصيني الحالي السيد شي جين بينغ من جامعة نزارباييف الدولية بكازاخستان سبتمبر2013، وتتلخص فكرة مشروع القرن في إحياء طريق الحرير القديم البري والبحري عبر ربط آسيا، وأوروبا، وإفريقيا بريا عن طريق شبكات السكك الحديدية فائقة السرعة، والطرق السريعة، وبحريا عن طريق إنشاء الموانئ على طول سواحل الدول الواقعة على الممرات البحرية القديمة والحديثة، وجويا عن طريق إنشاء المطارات، وطاقويا عن طريق شبكات الطاقة الكهربائية، وخطوط أنابيب نقل البترول والغاز العابرة للقارات، ومعلوماتيا عن طريق ربط شبكات الاتصالات، وغير ذلك من أنواع الربط الإقليمي والدولي، وهي تمثل نسخة الصين بثقافتها، وحضارتها، وتاريخها للعولمة، وحتى الآن انضمت إليها حوالي 152 دولة من بينها 52 دولة إفريقية، و21 دولة عربية، بالإضافة إلى حوالي 32 منظمة دولية، وقد أصبحت بذلك أكبر منصة للتعاون، والتنمية والسلام العالمي وخلال العشر سنوات الماضية تجاوز حجم استثماراتها التريليون دولار وأكثر من 3000 مشروع حول العالم.
طريق الحرير الجديد نطاقه الجغرافي غير محدود والموقع الجغرافي الاستراتيجي لمنطقة غرب إفريقيا يجعل منها حلقة مهمة جدا في أي مبادرة أو استراتيجية ذات بعد عالمي نظرا لقربها من أوربا، وأمريكا، وكونها المنطقة البكر الغنية بثروات الطبيعة، وجزء من الخزان البشري القادم إفريقيا جنوب الصحراء. المنطقة بها عدد كبير من الدول، إلا أنها تفتقر إلى الدولة الأساسية التي تعمل كمحرك إقليمي، وموريتانيا تقع على مفترق طرقها، مما يؤهلها أن تلعب دورا محوريا في المبادرة، ويعد التوقيع على اتفاقية الإطار بخصوص خطة التعاون بشأن البناء المشترك للمبادرة تحت إشراف صاحبي الفخامة السيد محمد الشيخ الغزواني ونظيره الصيني السيد شي جين بينغ تفعيلا لدور موريتانيا في المبادرة خاصة أنه يأتي بعد التوقيع على مذكرة التفاهم للتعاون مع الصين في إطار المبادرة سبتمبر 2018، بالإضافة إلى الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي حاليا ووفق أحدث البيانات ساهم في تمويل 227 مشروعاً بقيمة 43.64 مليار دولار في حوالي 35 دولة، وقد بلغ إجمالي عدد أعضائه 106 عضوا، بحجم سكاني يقدر بحوالي 81% من إجمالي سكان العالم، وحجم اقتصاد يمثل حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
إن مشاركة موريتانيا في بناء الحزام والطريق يعد الطريق إلى الربط الإقليمي، وتغيير الخريطة التجارية للمنطقة بإحياء التجارة عبر الصحراء وتحقيق الازدهار الإقليمي المشترك عبر الموانئ، والطرق العابرة للصحراء، مما قد يخلق ظروفا جيوسياسية جديدة تفضي إلى المساهمة في خلق الظروف الملائمة لإحلال السلام في المنطقة خاصة قضية الصحراء، فقد يصلح الاقتصاد ما أفسد التاريخ، وعجزت السياسية والحرب عن إصلاحه، هذا بالإضافة إلى أن المساهمة الفعالة في بناء الحزام والطريق قد تكون سببًا في جذب المزيد من الدعم المالي والفني الصيني لمجموعة دول الساحل الخمس، مما يكسبها المزيد من القدرة على مواجهة التحديات الأمنية والارهابية في المنطقة، والأهم من ذلك أن هذا التفعيل قد يشكل الطريق إلى التجربة الصينية الرائدة في مجال التنمية الشاملة، خاصة التجربة الصينية في مجال محاربة الفقر التي بشهادة الأمم المتحدة والبنك الدولي قادت إلى إخراج حوالي 800 مليون شخص من براثن الفقر.
نواذيبو عاصمة اقتصادية للمنطقة على طريق حرير
على الرغم من كون أمريكا ما تزال القوة العظمى عالميا، إلا أن الصين قد برزت بصفتها الأقوى اقتصاديا، وقد علـمنا التاريخ قديمه، وحديثه بأن صراع الدول العظمى يخلق فرصا استراتيجية لا تتكرر، وموريتانيا تعاني من عجز كبير في البنية التحتية، وخاصة في الطرق، والموانئ، وسكك الحديد واعتماد الصين لمنهج فريد لتعزيز الولوج إلى التمويل الميسر الذي توفره المبادرة، ومؤسساتها المالية، وكذلك تسهيل إقامة شراكات اقتصادية جديدة مثمرة وفق المفاهيم، والخيارات جديدة للتنمية قد يستجيب لحاجيات موريتانيا، ويمكنها من خلق بيئة جاذبة، وحاضنة، وضامنة لاستمرارية الاستثمارات الصينية، كما أن تفعيل موريتانيا لدورها في المبادرة قد يمكنها من استغلال الموقع الاستراتيجي لمنطقة نواذيبو الحرة بربطها بالمبادرة عن طريق إنشاء ميناء في المياه العميقة متعدد الأغراض، وبطاقة منافسة إقليميا لتحويل المنطقة إلى ممر اقتصادي، ومنطقة تصنيعية أولا، ومحطة عبور (ترانزيت) تخزينية تصديرية ثانيا تستهدف بشكل رئيسي الأسواق الإقليمية ثم العالمية، مما يمهد الطريق أمام قطب الشمال للعب دور اقتصادي أكبر بالوصول إلى عمق الساحل الإفريقي، عبر ربط الميناء بسكة حديد اسنيم إلى منطقة شوم ثم تمبكتو شمال مالي، وحتى جنوب النيجر، مما يسمح بتحويل مدينة نواذيبو إلى منطقة جذب استثماري عالمي، ومصدر تموين إقليمي، وعاصمة اقتصادية ليس فقط لموريتانيا بل لمنطقة الساحل كلها خاصة بعد أن أصبحت قطارات طريق الحرير الصينية تجوب أوروبا شرقا وغربا لتصل ما بين 109 مدينة صينية بـحوالي 211 مدينة أوروبية موزعة على 25 دولة على رأسها إسبانيا التي تبعد جنوبا عن الشواطئ الموريتانية حوالي 400 ميل بحري، وقد يعزز من هوية بلادنا المتميزة كهمزة وصل، ومنفذ تجاري رئيسي قيام الصين مؤخرا بفتح خط تجاري بحري بين موانئ الغرب الإفريقي، وميناء جزيرة هاينان للتجارة الحرة جنوب الصين، هذا بالإضافة إلى إنشاء ميناء الداخلة الأطلسي، والحمدانية الذي يستهدف الدول الإفريقية غير المطلة على البحر، وتعويضا عن البوابة الأطلسية المفقودة تراهن الجزائر كثيرا على الطرق السريعة العابرة للصحراء مثل طريق تندوف – الزويرات، وتسعى إلى تحويلها إلى ممر اقتصادي. مشاريع الربط هذه قد تسرع من سياسة الاندماج الإقليمي التي تنتهجها موريتانيا، وتعظم الاستفادة من موقعها الاستراتيجي كملتقى طرق بين مجموعتين اقتصاديتين هامتين هما اتحاد المغرب العربي، والمنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، خاصة بعد التوقيع على اتفاقية منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وإعادة الجسور التجارية مع المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا.
موريتانيا على خط المواجهة بين المبادرات العالمية
الظرفية العالمية الحالية، وما تتسم به من حروب الاستراتيجيات، ومرحلة مخاض ميلاد عالم جديد متعدد الأقطاب جعلت المنافسة والصراع بين الغرب والشرق تشمل كل أرجاء العالم، حيث باتت التحولات في الاستراتيجيات وخطط القوى العظمى تلقي بظلالها على المنطقة، واليوم أصبحت هناك مبادرات منافسة لمبادرة الحزام والطريق على رأسها تبني أمريكا لمبادرة "ازدهار إفريقيا" سنة 2018 التي تهدف إلى زيادة التجارة والاستثمار بين أمريكا وإفريقيا، وقد خصصت مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية استثمارات بقيمة 60 مليار دولار لدعم التنمية في المناطق ذات الأولوية على رأسها دول إفريقيا جنوب الصحراء، الدول التي تبنت أمريكا أغسطس 2022 رؤية استراتيجية جديدة اتجاهها، مما يجعل من "ازدهار إفريقيا" في منافسة مباشرة مع مبادرة "الحزام والطريق"، وكذلك طرح الاتحاد الأوروبي خطة "البوابة العالمية" التي تهدف إلى استثمار حوالي 300 مليار يورو في أفق 2027 من أجل تمويل مشاريع البنية التحتية عالميا، بالإضافة إلى إعلان مجموعة الدول الصناعية السبعة، أثناء قمتها بألمانيا يونيو 2022، عن خطة واسعة النطاق لمواجهة مبادرة " الحزام والطريق" بغلاف مالي يبلغ 600 مليار دولار أمريكي.
اليوم بات لهيب المنافسة والصراع الدائر بين الغرب والشرق يطال المنطقة وخاصة موريتانيا، التي وضعتها الجغرافيا نتيجة لموقعها الاستراتيجي على خط النار بين خطط واستراتيجيات متناقضة لقوى عظمى، ونتيجة أيضا لما تزخربه من موارد معدنية، وإمكانيات طاقوية هائلة خاصة في ظل سعي البعض إلى تشكيل "حلف الناتو المعدني" من أجل السيطرة على سلاسل التوريد المعدنية، وبالتحديد المعادن الحرجة ومعادن التحول الطاقوي بل وحتى خام الحديد المادة الخام للصلب العمود الفقري لجميع الصناعات المدنية والعسكرية، وقد أصبح سعي الغرب الحثيث بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى استدراج الدول المنطقة، وموريتانيا على وجه الخصوص واضحا من خلال الاهتمام المتزايد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بها، ودخول مؤسسة تحدي الألفية الأمريكية على الخط مع سعي موريتانيا إلى تحقيق درجات عالية في مؤشرات الاختيار التي تتبعها المؤسسة، وهو ما بات يعيد إلى الأذهان الحالة التي خلفتها تدخلات المؤسسة في كل من النيبال، ومالي، ومدغشقر، وتنزانيا وغيرهم، هذا بالإضافة إلى المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لموريتانيا التي شهدت خلال السنوات الثلاث الأخيرة زيادة كبيرة جدا، باتت تشكل أكثر من نصف مساعداتها خلال العقدين الأخيرين.
تتميز العلاقات الموريتانية الصينية بسمات وخصائص تاريخية وسياسية واقتصادية وتجارية جعلتها تختلف عن علاقات الصين بأي بلد آخر في شبه المنطقة، ومع ذلك لا بد من تبني منظور جديد يخرجها من تفاهمات الماضي، ويرعى على وجه الخصوص المصالح الحيوية لموريتانيا، من منظور يأخذ في الحسبان الموقع الاستراتيجي، والاتجاه العام للوضع العالمي، الذي هو بدون شك المزيد من التغيرات العميقة على أكثر من صعيد، هذه التحولات والتغيرات يجب اعتبارها بمثابة فرص تنموية للمنطقة، ولموريتانيا بالخصوص. تغيرات تعيد إلى الأذهان العصر الذهبي العربي – الصيني الذي كانت التجارة محورا رئيسيا في بزوغه، حيث لعبت حواضر العالم الإسلامي والعربي نظرا لموقعها الجغرافي دورا محوريا كحلقة وصل للتجارة عبر طريق الحرير القديم البري والبحري؛ وإذا كان التفاهم، والتعاون، والتقارب الإسلامي الصيني مفتاحا لإعادة إحياء طريق الحرير الجديد، فإن التعاون الموريتاني الصيني مفتاحا لدخول قاطرات طريق الحرير إلى عمق الساحل الإفريقي، وإفريقيا جنوب الصحراء، مما يؤهل موريتانيا أن تلعب دوراً محورياً في مبادرة الحزام والطريق، عن طريق إعادة إحياء دورها التاريخي الاقتصادي والتجاري كهمزة وصل بين شمال إفريقيا وغربها، وبالتالي تحويلها إلى جسر اقتصادي من جسور طريق الحرير؛ ومن أجل تحقيق هذا الدور في عالم ما بعد نهاية الأحادية القطبية لا بد من السعي إلى تحقيق التوزان بين الخطط والمبادرات المتنافسة، وفتح الطريق أمام شراكات اقتصادية دولية متعددة الأطراف، وبناء موريتانيا جديدة بوابة قطارات طريق الحرير، ومفاهيم التجارة الحرة وقيم الديمقراطية، ومنهج المذهب المالكي في الوسطية والاعتدال.