طرحت مسألة إلغاء مجلس الشيوخ في النظام السياسي الموريتاني عدة مرات؛ في أدبيات سياسية وفي حوارات سياسية سابقة ومن ضمنها الحوار الأخير بين السلطة الرسمية وأغلبيتها الحزبية الداعمة من طرف، وبعض أحزاب المعارضة ذات الطرح القريب من السلطة؛ وتمت مقاطعة هذا الحوار من طرف أحزاب معارضة ذات توجه راديكالي تجاه السلطة الحاكمة ،وبعض القوى السياسية المستقلة الأخرى.
وقد ظل مقترح إلغاء غرفة الشيوخ مطلبا تقليديا، يتذرع بانتقادات كلاسيكية معروفة من قبيل:
-عدم فاعلية الدور الرقابي والتشريعي للغرفة
- استنزاف موارد مالية تحتاجها الدولة في أقنية إنفاق أخرى.
غير أن الدور الأهم الذي تغفله المآخذ الآنفة؛ هو ما سيستشفه الموريتانيون لاحقا وحتى الشيوخ أنفسهم ؛وهو الفاعلية السياسية لهذه الغرفة وقدرتها الدستورية على الحد من تطلعات السلطة التنفيذية؛ وقد أبانت موقعة إجهاض مقترح التعديلات، القوة الكامنة لهذه الغرفة الفاعلة اليوم الديكور بالأمس!.
غير أن الحوار السياسي وكذا اقتراح التعديلات ،كانت بداية لطريق سياسي عادي وقد يكون مألوفا ،لإحداث تغييرات يرتضيها طيف سياسي واسع من الموريتانيين.
غير أن مؤسسة الرئاسة وهي الثملة –دستوريا وعمليا- بفائض الصلاحيات، والمستندة إلى تاريخ طويل من الممارسة السياسية التي ترى في كل السلطات، سلطات تابعة وملحقة -بالقوة والفعل -في يد الرئيس؛ أرتأت الخيار الأسرع والأسهل في تقديرها؛ وهو أن تأمر الشيوخ بشطب أنفسهم بأنفسهم؛ وهو تقدير موقف غير سليم، تتحمل الأجهزة الحكومية والحزبية ،حول الرئيس كفلا من وزره، في وقت كانت الاستشارة السياسية الصحيحة -لو وجدت- ستقترح الذهاب مباشرة إلى الاستفتاء الشعبي المباشر.
ولقد أدى إغفال هذا التدبير أن دخلنا مسارا غير طبيعي تجاذبته الرؤى الفقهية؛ مابين رؤية ترى بأن التعديلات الدستورية أصبحت غير مطروحة بعد إسقاط الشيوخ لها، وبالتالي فإن اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي بناء على المادة 38 ليس دستوريا من أساسه؛ ورؤية أخرى ساندت نوايا السلطة بإباحتها الاستفتاء الشعبي المباشر.
ومهما يكن من أمر فإن أغلبية كبيرة من النخبة الوطنية -وإن كانت عرية عن التأثير -ظلت أصواتها المبحوحة تنادى بضرورة تفادي مسارا سياسيا تتنازعه انشغالات نفسية وشخصية وأعراض خفية، لأن حال البلاد داخليا وما يحيط بها من تحولات، لا يعطي رفاهية الفعل للسياسي الموريتاني، في ظل محدودية الخيارات البديلة لخيار الفوضى أو تكريس مزيد من السلطوية وإرجاع الوضع السياسي إلى حالة من التأزم والجمود غير محمودة العواقب.
والحق أن الرئيس ومحيطه السياسي (الضيق ) مع استثناء قليل أخذ- كما الشيوخ تاليا - قضية إلغاء المجلس كقضية شخصية انتقامية، بل إن الماكينة الدعائية غيبت العقل والمنطق في التعاطي مع هذه القضية، وهو ما فتح الباب واسعا أمام تعبئة الموارد المالية وتجييش الإدارة وتسخير الإعلام العمومي بشكل فاجأ المراقبين ، لكن المفاجأة الأكبر تمثلت في عودة مسلكيات قديمة، لقوى الأمن فى مواجهتها للقوى المعارضة لمسار تراه غير شرعي ؛ وتراوحت هذه المسلكيات بين التنكيل والضرب وبين المنع وحتى الاختطاف....إلخ.
واليوم يضاف متغير جديد قد يؤدي لا قدر الله إلى مزيد من التأزم، مثله اعتصام الشيوخ في مقر إقامتهم، ومواجهة ذلك بمسلكيات أخرى غير حكيمة، من قبيل الحصار وقطع المياه والكهرباء كما أفادت به مصادر صحفية.
علينا أن نفهم أن هذه الدرجة من التأزم غير مقبولة؛ وربما واقعيا نعرف أن الرئيس والشيوخ ليسا في وارد التراجع، وهو وضع سيكرس مزيدا من الاحتقان ويفتح الوضع الموريتاني لا قدر الله على المجهول.
ويبقى الخيار الوحيد رغم ركوب الجميع التخندق - فقد ضاقت الأرض بما رحبت على الحياد والاعتدال- يبقى الحل هو التفاوض على أجندة جديدة، تؤجل موعد الاستفتاء وتعطي مزيدا من الفرصة للحوار بين السلطة والمجلس والمعارضة.
ولا شك أن الطرف المبادر بتغليب العقل والمصلحة الوطنية، بإعطاء مزيد من الفرص للحوار والتفاوض، سيكون له القدح المعلى عند المواطنين وسيكونون عونا له في قابل الأيام السياسية.
وبغير هذا فإن تجريب طريق العناد النصر فيه وهم مؤقت ولكل الأطراف.