العنوان المراوغ: انقلاب في مفهوم الذيب ورمزياته، في اللغة العربية والميثيولوجيا، فهو هنا يتجاوز ما يتبادر للذهن مبدئيا من مجرد القوة الذهنية الماكرة للذيب العادي، إلى القوة البدنية، والبطولة النفسية، والقدرة القيادية للأسد "ملك الغابة"، حسب ما كشفه وصفه في نهاية الرواية بـ "الأسد الجريح". وبين المعنى الأدنى، والمعنى الأقصى لتورية العنوان، تفاعلت سيرورات اجتماعية ثورية، ساعدت على انقلابات "الذيب" وتحوله، من الهامش التبعي، إلى المركز القيادي، بتأثير من خلفيتين انقلابيتين – بدورهما - ثارتا على وضعهما الطبقي الاجتماعي، الممتاز، المرسوم سلفا بشكل نهائي قدري، وتسورتا الحاجز الوهمي لطبقة كل منهما، فالبطل "لعبار" - إلى جانب فروسيته الخارقة، وقوته البدنية، التي منحته لقب "لعبار"، ضمن طبقة العرب "أهل الجعبة / حملة السلاح / أصحاب الركاب"، خرق – نسبيا - احتكار الزاويا - (أهل الدواة)؛ أهل الكتاب / متأبطي الألواح - للعلم، فاكتسب من المعارف الدينية والعلوم العربية، ما جعل "أم العيل"، تمنحه - أيضا- لقب "الفتى"، و"أم العيل" هذه، هي البطلة الزاوية الثورية، التي كسرت - هي الأخرى - جدار احتكار رجال الزوايا للتعلم المعمق، والتعليم العالي، دون النساء، واحتكارهم تعليم العلم مطلقا، لغير الزوايا، فقد سبق أن ساعدت لعبار نفسه، على اختراق زاوية من علم الزوايا "المضنون به على غير أهله"، وها هي ولعبار، معا يتبنيان مشروع انقلابات "الذيب"، على النبز بالتنميط الاجتماعي: "الخائب"، الموسوم به - ظلما وعدوانا - كل من لم يفلح من الطبقات الدنيا في إتقان مهارات طبقته الخاصة به، المكرسة لسجنه الأبدي، داخلها، لن يعدوها، مهما أتقن من مهارات الطبقتين العليين: (العرب – الجعبة / الزوايا - الدواة).
فـ"الذيب" أخذ – مبدئيا - وسم "الذيب"، من أستاذه في فنون الفروسية، وفي مبادئ العلوم، البطل "لعبار": حتى نُسي أن "لعبار" كان يسمى بهذا الاسم، وقد تكرس له هذا اللقب بحمولته البطولية، منذ استعان به دراويش "أبناء الدواة"، المكرسون لغير ذات الشوكة، أيام تتلمذه عندهم؛ ليقتل لهم "الذيب"، الذي يفترس مواشيهم في وادي الملزم، ولا حيلة لهم في قتله، فقضى عليه، وتقمص جلده، بعدما سلخه، فلازمته الذئبية البطولية، من يومئذ، حيث بدأ مباشرة، بعد قتله "الذيب"، في اقتناص ذئاب المستعمر الفرنسي، متنكرا تحت جلد "الذيب" ووسمه، وقد حولته تعاليم شيخته الثانية "أم العيل"، من مفهوم" ذؤبان صعاليك العرب" منذ الجاهلية الأولى، إلى مفهوم "أسد الله"، "ذيب" جهاد المستعمرين، والمتمالئين معهم من مختلف فئات مجتمع "البلاد السائبة"، وعلى رغم من بقاء وجه "الخائب"، يلف وجه "الذيب" / البطل الخارق، فقد منحه الفارس "العبار" فرسه "المليسة"، وأوصت له الشيخة "أم العيّل"، بمكتبتها، تكريسا منهما لزعامته الفروسية، والجهادية، والعلمية، بعدما خَلَّص أمير قبيلة "الجعبة" من أسر قائد الاستعمار الفرنسي، وقام – وحده - بمهمة جلب السلاح من ضفة البحر، ودوخ الفرنسيين الاستعماريين، وتخلى له القائد الأعلى زناد بن الجعبة، ووزيره "لعبار" عن شرف قيادة المعركة الفاصلة مع أعداء القبيلة المتحالفين مع الاستعمار، فحقق النصر المعجز: / المستحيل، وقام بتصفية قتلة شيخته "أم العيل" واقتناص فلول الاستعماريين...
ومن هنا انقلب "الذيب" المفرد في العنوان، إلى قطيع من الذئاب، يتصيد الأعداء هنا وهناك، لتوالد الفكرة الذئبية بحمولتها الإيجابية، من أب لم ينجب، هو "لعبار"، و"أم عيّل" بتول / عذراء، لم تتزوج أصلا.. فيا للمفارقة!
ترميز الشخصيات: انقلاب على المتلقي العام
فهنا تتفاعل - في الجدل الطبقي - الجعبة، والزناد، والفردي، والغرس، ولمدكْ، والغشوة، رمزا "للعرب"، حملة السلاح، مع طبقة الزوايا: (ادوايه)، أهل الكتابـ "المرابطيين"، "الطلبة" الذي اختار لهم المجتمع من المهام الحياتية غير "ذات الشوكة"، مثل: الطالب بن دواي، و"أم العيّل"، والطالب بن "ولي الله"، والشيخ محفوظ بن شياخ، شيخ الطريق الصوفية العبدلية، إضافة إلى طبقة الصناع التقليدين، المعلمين: المرموز لهم بـآل "الزبرة" / السندان، الذين يرتفع بهم "الخائب" من درج الصنائع اليدوية الخدمية لجميع فئات المجتمع، إلى منافسين - عبر "الخائب" الناجح بتفوق - في اكتساب مهارات فروسية "أولاد الجعبة"، ومعارف وأخلاق "أهل الدواة"، رغم أن جده "الحسن بن الزبرة، كان - إلى جانب مهاراته الصناعية الحرفية – شاعرا وعالما، لكنه لم يستطع أن يتسور محراب "الزوايا"، ولا افتتاح قلعة "المحاربين"، مثلما حقق حفيده "الذيب" / "الخائب" / الناجح.
ينضاف إلى ذلك طبقة التابعين الغارمين الذين كان رائدهم - في الرواية - "ابن الطيب" التاجر المستقل "القوي الأمين"، الذي أضفى رمزية "الطيبة" الأخلاقية في سيمياء اسمه، على تجارته، فكفّ يد صفقاته عن المستعمرين وأتباعهم، ولم يرضخ لابتزاز أهل الشوكة الموالين للفرنسيين، والذين استقطبهم "الذيب" "الخائب" الناجح إلى محالفة "أهل الجعبة" للتحرر من مستغليهم ومستعمريهم، في معركته الفاصلة.
كما أن هناك طبقة المطربين، أهل "العصبة" / المغنين، عازفي الأوتار، وناظمي الأشعار، في تمجيد أهل "الجعبة"، الذين حرضهم" الذيب / الخائب" على السعي للاستقلالية، عن التبعية فنفى رمزهم: (الحسن بن العصبة) أن يكونوا تبعا لهذه الطبقة، بقدر ما هم قوامون بدورهم الاجتماعي، فهم حفظة التاريخ، وحارسو القيم، وصانعو الملاحم.. الخالدة.
وأخيرا هناك طبقة "الحراطين"، الذين يمثلهم على هامش: حلة أهل الجعة "صنب" ماتح البئر، و"مسعود" راعي الغنم على هامش أهل "أدواي"، و"امبارك" راعي مواشي الحامية الاستعمارية الفرنسية نهارا، ومادح النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا، وأخيرا هناك البطل المجاهد، الخفي ول امسيكة" غير المسمى هنا بالتصريح، والذي كان - هو الآخر- من مريدي الشيخة الثائرة "أم العيل".
ويتجلى الانقلاب على المتلقي العام، في ترميز الشخصيات والطبقات، من خلال عدم شرح، أو تعريب المعجم الترميزي الموغل في المحلية الموريتانية، مثل: الجعبة، والغرس، والزناد، والعصبة، والزبرة، كما يتجلى أيضا في كون بعض الأسماء / الرموز هنا يدل على نقيض معناه، فـ"الأزعر"، الدال على الشديد البياض، كانت أمه سوداء، والذيب انقلب على ذئبيته الدونية، وتحول إلى أسد جسور هصور، والخائب انقلب على خيبته المنذورة لمن هو مثله اجتماعيا، لينجح بجدارة في صيرورته، فارسا لا يشق له غبار، وإماما للمصلين، وعالم دين متبحرا، ومجاهدا منصورا، وأم العيل، الشيخة العالمة المفتية المربية البتول العذراء، ليس لها عيال بالمفهوم النسبي، ولكنها أم "العيل" / الفتيان، الذين أنجبتهم بفكرها وتعليمها من مختلف الطبقات شبه العقيمة، في المنظور الضبابي للبلاد السائبة، فهي أم الفارس "العبار" فتى العرب المتعلم المتدين، الشهم، وأم "الخائب"، الناجح فارسا وعالما من طبقة "الصناع التقليديين"، وهي أم مريدها فارس الحراطين المجاهد المجهول، المتقمص لـ"ول امسيكة"، وإن لم يُصَرَّح باسمه.
انقلاب الخفاء على التجلي
في صراع "الخائب" و"الذيب"، ضمن شخصية البطل المحوري، فكل نجاحات "الذيب وانتصاراته، وانتزاعه الاعتراف بالقيادة والريادة، من قبضة محتكريها من زعماء أهل "الجعبة" الفرسان الأشاوس، ومن زعماء أهل "الدواة"، الراسخين في العلم.. كانت يؤجل إعلان أن فاعلها "الذيب" المجهول الأسطوري، هو "الخائب" العادي المعروف، وقد ظلت المماطلة السردية في إسقاط نجاحات الذيب المعترف بها، على فشل "الخائب" المترسب عميقا في الذهنية السائبة، ساري المفعول، حتى أرست القصة على نهاية خائبة "للخائب"، ونهاية فاجعة للذيب، زُحْلِقت لتكون بداية، وربما لأن الرواية مغاربية رهينة واقعها الاستثنائي، في بلاد السيبة، وليست... "رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال"، لم يُسمح للبطل "الذيب / الخائب أن يتزوج بمريم ابنة سلطان أهل "الجعبة"، التي ترى "الذيب" البطل فارس أحلامها، و"الخائب" مجرد ترب لها، وربيب لطفولتها، هو – عندها - من "غير أولي الإربة"، لأنه من طبقة، لا ترقى لمستواها، مع أن المآل الذي رشحت له سردية الرواية من تقبل أبيها السلطان: زناد، وخالها لعبار لقيادة "الخائب" الفكرية والعسكرية، وإعجاب طبقتهم النخبوية ببطولته الخارقة، وَتَدَلُّهِ مريم بصورته الذئبية الخيالية، وتَدَلُّهِهِ هو بصورتها الماثلة الشاهدة، كل ذلك كان مؤهلا لنهاية واصلة، تناسب المسار الثوري، لأبطال الروية ضد المعوقات الواصلة..
وينضاف إلى كل الانقلابات السابقة انقلاب البنية العامة للرواية فقد تعاقبت جل فقرات رواية الذيب الـ19، وتناوبت – زمنيا - في كرونولوجية معقولة باستثناء البداية التي كانت نهاية، وباستثناء الفقرة 16، التي قدمت أحداث الانتصار في المعركة، على الفقرة 17، التي تضمنت التخطيط للمعركة.