نظمت السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية "الهابا" مؤخرا مؤتمرا دوليا غير مسبوق في تاريخ البلد حول "القطاع السمعي البصري في العصر الرقمي؛ المكاسب والتحديات"، وذلك بمشاركة واسعة لرؤساء هيئات الضبط الإعلامي الإفريقية والفرانكفونية، وحضور مشهود لنخبة من الإعلاميين والخبراء والمتخصصين في قضايا الإعلام والاتصال السمعي البصري في عصر ثورة التقانة والانفجار الرقمي.
وتواصلت فعاليات هذا المؤتمر الدولي الملتئم في نواكشوط - لأول مرة - طيلة يومين تخللتهما ورشات وجلسات عمل أطرتها وأثرتها صفوة من الخبراء والمتخصصين في إشكالات الاتصال السمعي البصري من مختلف البلدان الإفريقية المشاركة، وتوج بإصدار "إعلان نواكشوط" الذي تضمن مقاربات استراتيجية عميقة وتوصيات استشرافية مستنيرة تخاطب مختلف شركاء العملية الاتصالية من سلطات ضبط وتقنين وفاعلين في المجال السمعي البصري وشركاء محليين ودوليين ومنتجين ومستهلكين للمادة الإعلامية؛ بغية التأسيس لإعلام سمعي بصري مهني نوعي وتعددي يتمتع بالمصداقية والمسؤولية ويعمل على تكريس ثقافة التعددية وتوطيد التنوع الثقافي.
لقد شكلت الكلمة الافتتاحية التأطيرية لرئيس السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية الدكتور الحسين ولد مدو التي استهل بها فعاليات المؤتمر، فضاء نظريا مؤطرا وموجها وممهدا للجلسات والعروض والنقاشات التي تمحورت حول انشغالات وتطلعات هيئات الضبط والتقنين، والفاعلين في المجال السمعي البصري نحو مزيد من تعميق وتطوير الشراكة والتمكين لمواءمة آليات الضبط مع متطلبات الانفجار الإعلامي، وتكييف الأدوات الفنية والقانونية لهيئات الضبط مع مستجدات العصر الرقمي.
وقد تحدث في هذه الكلمة المكثفة والمكتنزة لمشمولات ومحتويات الموضوع عن "ثلاث سياقات" يتنزل التئام هذا المؤتمر ضمنها:
- سياق وطني يتمثل في نتائج ومخرجات إصلاح قطاع الإعلام الوطني الذي أطلقه رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، وما أثمر من خلاصات وتوصيات هامة على مستوى الترسانة القانونية والإصلاحات المؤسسية،
- سياق إقليمي وفرانكفوني يتعزز فيه حضور ونشاط هيئات تقنين الإعلام السمعي البصري في المنطقة الفرانكفونية من خلال حجم القوة الاقتراحية لها في المحافل الإعلامية الدولية (المبادئ التوجيهية لليونسكو حول المنصات العالمية نموذجا) ..فضلا عن تعزيز وتوطيد عرى التعاون بين هيئات الشبكة (زيارة رئيس الشبكة لموريتانيا مطلع هذا العام وتوقيع اتفاقية هامة في مجال التكوين وتحسين الخبرات وإطلاق مشروع ريم ميديا بمكوناته المتعددة).
- سياق دولي يشكل فيه الإعلام الرقمي تحديا كبيرا أمام وسائل الاتصال السمعي البصري، رغم ما يوفر من مزايا ويتيح من مكاسب لخصها الدكتور الحسين ولد مدو في كلمته الافتتاحية التأطيرية بالقول إنه (أي الإعلام الرقمي): "يجسد دمقرطة المعلومة ويشكل فتحا حقيقيا من فتوحات العصر الحديث، لكنها ثورة تقنية متصحرة لم تسبق بمدد فكري ولم يرفدها عطاء فلسفي يؤمن لها التجذر داخل المجتمعات بالشكل المطلوب، لذلك أمنت التبادل والآنية والفاعلية والتفاعلية، وهددتها مخاطر متعددة من خلال تحولها إلى فضاء يحول الإجماع المجتمعي إلى تشظ وتمزق، والإجماع حول الثوابت إلى تشكيك".. ومن هنا ينبع القلق من إمكانية تحولها من رافعة بناء إلى معول هدم، ودعا في هذا السياق إلى العمل على بلورة آليات لاستثمار حسنات ومزايا البعد الرقمي، وتحصين وحماية الملتقى من مثالب التمييز والجنوح الإعلامي، ممثلا لذلك بتعاطي المنصات الرقمية العالمية مع الأحداث الجارية في فلسطين المحتلة، وما يشوبه من تزييف للحقائق وتمييز ضد شعب يتعرض لإبادة جماعية، ورغم ذلك تمارس منصات التواصل الاجتماعي العالمية التضييق والحظر على كل مناصر للقضية الفلسطينية وكل القضايا العادلة في العالم.
وختاما، فإن التئام مؤتمر دولي بهذا الزخم الأكاديمي والمهني يعكس ويجلى الديناميكية المشهودة التي تعيشها الهيئة في هذه اللحظة الفارقة من مسارها المؤسسي، حيث أضحت صرحا مهنيا مستقلا يشكل أيقونة للضبط والتقنين وحاضنة للتمهين والتمكين لقيم العمل الإعلامي الناضج الناصع والنابع من رؤية إعلامية قارة واستراتيجية اتصالية مدروسة، والمنضبط بمرجعية مؤسسية واضحة ومدونة قانونية صارمة، تسعى إلى تأمين وتحصين حرية الصحافة وتجسيدها مكسبا وطنيا وخيارا استراتيجيا أساسيا؛ يشكل ركيزة محورية للممارسة الديمقراطية ورافعة قوية للتنمية.