لا شك أن استحداث رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني جانبا تنمويا عمليا موازيا لمجريات احتفالية مهرجان المدن القديمة، شكل تحولا هاما ونوعيا في مسار التظاهرة، ونقلة كبيرة تجسدت في تلبية مطالب السكان القاطنين بنصيب من المشاريع التنموية. كما أن خروج الرئيس على الخطابات المهرجانية الافتتاحية المعتادة والتركيز في متن وجوهر الخطاب - بعيدا عن المظاهر الكرنفالية الروتينية - على توظيف الحضور من خلال تناول القضايا الوطنية المحورية، العميقة الدلالات، العالقة في وحل الاعتبارات المجتمعية الرجعية، التي تتطلب المكاشفة والمعالجة وجعلها ضمن النتائج المحورية المنتظرة؛ كان كل ذلك سابقة في مباحث وسياقات التناول الجاد الواعي والشجاع لإعداد أرضية صلبة يتأسس عليها التصالح مع الذات الوطنية المقيد بأغلال إملاءات الطبقية القبلية والفئوية والشرائحية.
ولا شك كذلك أن وزير الثقافة، السيد أحمد ولد سيدي أحمد ولد أج، أبان منذ الوهلة الأولي عند توليه وزارة الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان، عن حس عميق وإدراك ثاقب لخصوصية الجانب الثقافي من قطاعه المتعدد المهام، وعما يميزه بدقة عن الجانبين الإعلامي والرياضي، إلا فيما يتصل بالقواسم المشتركة في دائرة الوعي الشامل الذي يستوجب التنسيق ضمن المسارات المتوازية.
وهو الفهم المستجد، في الوزارة، الذي أعان على استحداث بعض الترتيبات العملية التي لا شك ستضبط مهام الوزارة المتداخلة، وتحُول دون إغراق "المهرجان" في الروتين العقيم الذي وضعت أساساته ورتبت أبجدياته، منذ النسخة الأولى وبنفس المقاسات الجامدة، أيدي وعقول نفس الأشخاص الذين ما زالوا يكررون السيرة بذات الأسلوب والصياغات الغرضية.
وعلى الرغم من هذه التغييرات الإيجابية والإرادة الصادقة وما تطرأ من تحسن يذكر عل النسخ الأخيرة، فإن صندوق "باندورا" قد انفتح في موعده:
- فاستيقظ الغاوون الجدد من سباتهم،
- وتحرك شعراء المناسبات من معتكف بحثهم عن الإلهام الذي هجرهم،
- وغادرت أسراب المتزلفين والمنافقين صوامعها وقد ضاقت بها،
- وهبت جموع محترفي الاستنساخ ليعيدوا تجاربهم الناقصة مستعينين بأدوات النسخ واللصق المتاحة بكثرة،
- وتداعى الباحثون، من كل فج عميق، بحثا عن مغامرات جديدة بأدوات حائرة،
- وتحرك جمهور الإعلاميين غير المراعين لمواثيق شرف المهنة وضوابطها، والمتحولين استسهالا إلى منصات التواصل الاجتماعي، يُطلقون الكلام على عواهنه، يخطئون غالبا عمدا، ويصيبون قليلا بالصدفة العابثة،
- وخرج نفر من "الوجهاء" بوجوه من خشب تعلوا رؤوسَهم عمائمُ الإقطاع،
- وشحذ الوصوليون والطفيليون والانتهازيون سكاكين التملق والوشاية.
إنها الوليمة التي يتسابق إليها، في كل عام، خريجو مدرسة "أشعب" ومرتادو مستنقع "الجيف" نسورا وغربانا بريش الطواويس، وذئابا وضباعا بفراء ناعمة، وخفافيش الظلام تمتص قليل ماء الحياء ودماء بقية الأخلاق ويسير التقوى، يضايقون القليلين من الصادقين في فنهم وشعرهم، ويزاحموا بالكثرة والغثاء أهلَ الدراية والاختصاص والرصانة العلمية، لتظل حواضر البلد، التي عمرها الأجداد يوم نشأت "محطات ومواقف" على طريق القوافل بين المشرق والمغرب، وأنجبوا على أديمها من رحم الصبر والمعاناة والعفة والتواضع رجالا نازلوا فيما بعد علماء المشرق والمغرب بما جاء من عندهم ونسوه، ويظل هذا الازدراء الذي يتدثر بـ"الاهتمام" العقيم المُتجدد مع كل موسم، يغطي ويصحب أخطارا وآفات طالما أضَرت بها؛ أخطارا منها وليس حصرا:
- التحامل على التاريخ بالمجاملة التي تنسف العلمية وتلقي ظلال الشك على محتويات المُخرج، الذي يكون في الغالب تكرارا بلا تمحيص أو تحيين،
- تلويث بيئة المواقع الأثرية بدخان العوادم وفضلات سموم المستهلكات الصناعية، وبالصخب الحركي الذي يحرك أساسات العمارة الأثرية الهشة أصلا حيث هي مبنية بالطين والحشائش،
- ترسيخ المفاهيم المتعارضة مع دولة القانون والمواطنة كالقبلية والجهوية والفئوية والاحتكارية للعلم والفروسية،
- الشعر المزكي للأساطير والخرافات على حساب القراءة العلمية الرصينة التي تصلُح أن تكون رافعة للحاضر في معركة الغد،
- اعتماد القص واللصق اللذين يشوهان المخرج ويضعفان السند،
- ترسيخ ثقافة الترفيه البسيط و"الاستبلاه"، والانصراف إلى الطرب الذي لا يحمل هم التظاهرة ولا يوثق التاريخ بصدق وأمانة علمية، والشعر الذي يحمل كل أمراض ماضي اللادولة والاختلالات البنيوية العميقة.
وكل ذلك على حساب:
- التأمل العميق،
- والبحث الرصين،
- والتدقيق المنهجي،
- والتوثيق المبوب،
- ونشر الجديد بأدوات العصر ليرفع شأن البلد ويجعله قبلة لـ"لسياحة الثقافية" الرائجة التي باتت رافعة اقتصادية جديدة في العالم، تدر على الدول المال الكثير وتجعلها وجهة وملتقى.