أثار قرار إلغاء مجلس الشيوخ واستبداله بمجالس جهوية منتخبة، والمقدم للاستفتاء العام - ضمن الإصلاحات الدستورية الأخرى التي تمخضت عنها جلسات الحوار الوطني الشامل، أثار هذا - ولعل أكثر ما لفت انتباهي هو المنحى الذي أخذه - القرار العديد من النقاشات وأسال الكثير من الحبر حول أهمية المجلس من المنظور الديمقراطي العام، ومدى ملاءمته مع الخصوصية الموريتانية وطبيعة الواقع المميز لبلادنا.
وقبل أن أتناول الموضوع أود أن ألقي نظرة سريعة على تاريخ مجلس الشيوخ منذ العهد الروماني حيث كان أعضاءه يمثلون طبقة النبلاء والأشراف، ويتم الولوج إليه بالتعيين والوراثة. ليتطور بعد ذلك على مر العصور حتى يصبح في الديمقراطيات الحديثة ـ ذات الغرفتين ـ هيئة تأخذ أهميتها وموقعها من طبيعة النظام السياسي، وخصوصية كل ديمقراطية على حدة.
يشكل مجلس الشيوخ هيئة تشريعية يمثل أعضاءها الولايات- مثلا - ففي الولايات المتحدة الأمريكية المكونة للاتحاد، وتعمل بالتوازي والتكامل مع مجلس النواب الذي يمثل أفراد الشعب.
وفي بريطانيا يشكل مجلس "اللوردات" النسخة المحلية لمجلس الشيوخ ويتم انتخاب بعض أعضاءه وله دور استشاري بح.. وتعيين البعض الآخر، أما في فرنسا (الجمهورية الخامسة) فيشكل مجلس الشيوخ هيئة تمثل المجموعات المحلية ذات العمق (DOM - TOM) السوسيو ـ تاريخي، بالإضافة إلى أقاليم ومناطق ما وراء البحار.
وفيما يخص بلادنا فإن دستور 1991 نص على إنشاء مجلس للشيوخ يراد منه تمثيل المجموعات المحلية على غرار ما نص عليه الدستور الفرنسي. ولم يكن الأمر في حد ذاته عيبا لأن الاستئناس بالنماذج السابقة عند إعداد الدساتير والقوانين أمر عادي وقد يكون ضروريا أحيانا، ولكن العيب في عدم مراجعته وتحسينه أي الدستور، كلما تبين أنه لا يستجيب للتطلعات أو يتنافى مع الخصوصيات، أو يشكل عرقلة من الناحية الإجرائية، أو عبئا ماليا لا يتناسب مع ما يؤديه من وظائف، أو يسديه من خدمات.
وعلى ضوء ما سبق تبدو الإجابة على الإشكال المطروح بكل موضوعية ومنطقية: هل يشكل مجلس الشيوخ "هيئة" ضرورية للنظام الديمقراطي الذي ننشد بناءه في بلادنا ؟".
وهل يمكن القول إن ديمقراطيتنا ستكون أكثر تمثيلية، وأقرب لمواطنينا، وأكثر استجابة لتطلعاتنا وتلاءما مع خصوصياتنا لو ألغي مجلس الشيوخ واستبدل بمجالس جهوية ينتخبها المواطنون مباشرة - على عكس الحال بالنسبة له - تمكنهم من المشاركة في تسيير شؤونهم، ولن يكون من أدنى إيجابياتها تشجيع وتجذير الممارسات والسلوكيات الديمقراطية في الحياة اليومية للمواطنين؟
تبدو الإجابة على الإشكال سهلة، من وجهة نظري على اعتبار أن معيار المصلحة العامة، وترسيخ واحترام الخصوصية الثقافية والاجتماعية والتاريخية هما المحدد الأول عند وضع ثوابت وأساسيات النظام السياسي للبلد.
لذا يبدو من الواضح للعيان ما تكتسيه إعادة النظر في دستورنا من أهمية ليعكس واقعنا، ويستجيب لطموحاتنا، ويعبر عن إرادتنا في مواصلة البناء والتطوير في شتى المجالات.
أخيرا لا يمكنني أن أنهي هذه المشاركة المتواضعة قبل أن أذكر قادة ومنتسبي المعارضة المقاطعة، والذين يملؤون الفضاء الافتراضي والسمعي البصري بـ"البكائيات" على مجلس الشيوخ بما تحويه إعلاناتهم السياسية وبرامجهم الانتخابية، ومقابلاتهم الموثقة من تعهدات والتزامات بإلغاء مجلس الشيوخ، فور وصولهم للسلطة، بنفس الحجج المتقدمة تقريبا.
.
ما كان ضرهم لو أعلنوا بشجاعة ووطنية عن تأييدهم لخطوة كانوا أول من نادى بها ودافع عنها؟؟؟!!!!!
أم أن معارضتنا ليست معارضة مبادئ وأفكار وبرامج، وإنما معارضة أشخاص وأمزجة؟