في الحلقة الأولى، استعرضنا المبادرات الصينية العالمية، والتي تغطي مجالات مختلفة، ويشكل التعاون والتعاضد، والبحث عن التنمية المشتركة، والحرص على مستقبل واحد للبشرية عناوينها الرئيسية، وهي قيم تستمد قوتها من التراث الصيني القديم، وتستند في حاضرها إلى الخطط والاستراتيجيات الصينية الداعية إلى اعتماد الحوار المباشر، والأساليب السليمة أدوات لتجاوز الخلافات وتسيير التباينات.
فقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال خطابه في افتتاح المنتدى الثالث للحزام والطريق يوم 18 أكتوبر المنصرم في قاعة الشعب الكبرى بالعاصمة الصينية بكين أنهم يدركون بشكل عميق أن البشرية تعيش في مجتمع مستقبل مشترك يعتمد فيه بعضها على البعض، وأن "لن تكون الصين بخير ما لم يكن العالم بخير؛ وسيكون العالم أفضل عندما تكون الصين بخير".
في الحلقة الثانية، نستعرض التجربة التنموية الصينية المهمة، والتي حققتها الصين خلال ظرف وجيز، مبرزين من خلال المقارنة الإنجاز الهائل الذي حققته هذه التجربة.
تجربة تنموية ملهمة
تقدم الصين للعالم أجمع، ولدول العالم السائرة في طريق النمو تجربة تنموية ملهمة، استطاعت من خلال خلق "معجزة اقتصادية" في فترة وجيزة لا تتجاوز أربعة عقود إلا بقليل، وهو عمر قصير بالنسبة للأشخاص أحرى الدول، وذلك من خلال إطلاق برنامج إصلاحية شاملة، مع الصبر والصرامة والتدرج في تطبيقها.
ويؤرخ الصينيون لبداية هذا التحول بـانطلاق "مسيرة الإصلاح والانفتاح"، والتي أعلن عنها خلال الدورة الثالثة للمؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني في العام 1978، وذلك لمواجهة التحديات الكبيرة والعميقة التي كانت الصين ترزح تحتها سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا ودبلوماسيا.
أطلق هذه المسيرة الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ، وخلال 44 سنة فقط من إطلاقها، نجحت في الصين في التقدم لتصبح ثاني اقتصاد في العالم، بنسبة نمو إجمالي بلغت 8% سنويا (1978 - 2022)، حيث وصل حجم الاقتصاد الصيني إلى 18.1 تريليون دولار أمريكي، ليشكل بذلك نسبة 18% من الاقتصاد العالمي، ونسبة 71% من اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية.
كما أضحت الصين أكبر دولة في التجارة الخارجية، حيث انتقلت تجارتها الخارجية من 20.6 في العام 1978 إلى 6310 مليار دولار العام المنصرم (2220).
أما الناتج المحلي الإجمالي في الصين ففقز من 216 دولارا 1978، إلى 18.100 دولار 2020، متفوقا بذلك على الاتحاد الأوربي (15.810)، واليابان (4.234)، بعد أن كانت متقدمة عليه بعدة أضعاف قبل أربعة عقود ونيف.
وعلى مستوى نصيب الفرد، قفزت الصين من 155 دولارا في العام 1978، إلى 12.813 دولارا في العام المنصرم (2022)، وإن قعد بها في هذا الرقم تعداد سكانها الكبير، لكن تقدمها فيه كان هائلا.
كما تصدرت الصين العام الماضي كل دول العالم من حيث عدد الشركات الكبرى ضمن الـ500 شركة المصنفة أولى عالميا، متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة، وبلغ عدد الشركات الصينية 129 شركة، فيما تراجع عدد الشركات الأمريكية إلى 121، ودخلت 52 شركة يابانية ضمن هذا التصنيف، و31 شركة فرنسية، و29 شركة ألمانية.
ويرجع الصينيون هذه الإنجازات الكبيرة إلى تطبيق قواعد تضمنتها خطة الإصلاح والانفتاح، وعززتها خطة "تحديث النمط الصيني" التي اعتمدها الحزب الشيوعي الحاكم خلال مؤتمره العشرين المنعقد العام الماضي.
وتقوم هذه الخطة على قواعد ومعالم كبيرة من أبرزها "اعتبار التنمية الأولوية الكبرى لحل مشاكل الصين"، و"تحرير الفكر وعدم التقيد بالنص"، سواء النص الموجود في التراث الصيني القديم أو النص الماركسي، مع النظرة الموضوعية لهما، وربط المبادئ الماركسية بواقع الظروف الصينية، والاستفادة من تجارب ودروس جميع الشعوب.
كما تضمنت الخطة "تحقيق اتفاق وطني في النظرة إلى الماضي"، ونزع القداسة عن الأشخاص العظام في تاريخ الصين الحديث دون تجاهل إنجازاتهم وإيجابياتهم، ولا التغاضي عن أخطائهم، واعتماد الإصلاح التدريجي، ورفض الأسلوب الصدامي.
ويؤكد الصينيون أن أحد مفاتيح نجاحهم الاقتصادي إدراكهم العميق "للعلاقة الجدلية بين الاستقرار والإصلاح والتنمية"، إذ إن إصلاح النظام السياسي يتطلب الكثير من الحذر، والتمسك بمبدأ "الاستقرار أولا" دون التخلي عن الاختبارات الديمقراطية على مستوى القاعدة وداخل الحزب.
ويورد الصينيون هنا ما يصفونه بـ"الصبر الاستراتيجي"، أو ما يمكن أن يسمى بعدم منح "عدوك" أو "خصمك" الفرصة لتحديد ساحة وتوقيت المعركة معك، وهو ما يمكن أن يفشل أو يشوش على أهدافك وخطط التنموية.
ويسرد الصينيون الكثير من الوقائع "الاستفزازية" التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية أو القوى الغربية الأخرى، والتي يرون أن هدفها هو جرهم إلى مواجهة تعيق أو تعرقل مسيرتهم التنموية، وذلك منذ القصف الأمريكي للسفارة الصينية في بلغراد (مايو 1999)، إلى زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان بداية أغسطس من العام الماضي.
لقد حسب العالم في هذين الحادثين – وحوادث أخرى عديدة – أن الصين سترد بقوة، وربما تدخل في مواجهة مفتوحة، بل وحبس بعضه أنفاسه ظنا منذ أن الصين ربما تصل حتى درجة إسقاط طائرة الشخصية الثالثة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن تقدير الصينين كان مختلفا، ورأوا في هذه الأحداث محاولة لـ"الشوشرة"، والتشويش على مسيرتهم التنموية الواعدة، ومارسوا إزاءها ما يصفونه بـ"الصبر الاستراتيجي"، وتمت تسوية الموضوع بالطرق الدبلوماسية، أو تم تجاوزه.
ومن معالم خطة الصين لـ"الإصلاح والانفتاح"، العمل على "خلق بيئة دولية صالحة للتنمية، والانفتاح على العالم بشكل شامل، وتحسين العلاقات مع جميع دول العالم وانتهاج سياسة حسن الجوار مع البلدان المجاورة وتطوير الصداقة التقليدية مع العالم الثالث؛ والتمسك بمبدإ تعددية الأقطاب وتبني سياسة خارجية مبنية على أساس الاستقلالية والسلام؛ وعدم رفض العولمة أو مواجهتها بل العمل على الاستفادة منها في مجالات التنمية الاقتصادية والتجارة الخارجية وجذب الاستثمارات وتشجيع الشركات الصينية على التوجه إلى العالم لخوض المنافسات، والمشاركة في التنمية.
كما تضمنت الخطة الربط بين الاقتصاد السوقي والتحكم الكلي، إذ إن السوق يضخ الحيوية في الاقتصاد ويفجر مبادرة الأفراد، لكن دور الحكومة يبقى مهما جدا في توجيه النمو السليم للاقتصاد.
وعبر هذه التجربة الكبيرة، نجحت الصين في اجتراح طريق خاصة بها في التنمية، تم الاعتراف بها عالميا على كافة المستويات، وكانت تجربة محاربة الفقر من أنجح محاورها، إذ أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم 25 فبراير 2021 أن الصين حققت "انتصارا كاملا" في معركتها ضد الفقر، مضيفا أن "تم القضاء على الفقر المدقع في أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان".
ومن أهم أسباب نجاح التجربة الصينية التنموية اعتمادها للإصلاح المتدرج، واستفادتها من أخطائها ومشاكلها، وتحقيقها للتوازن بين الإصلاح والتنمية والاستقرار، والمرونة في تغييرها وتعديلها وفق ما يستجد من عقبات وتحديات، والعمل عليها في هدوء وصمت دون ضجيج ولا تفاخر، وعدم تقديمها للعالم كـ"أنموذج فريد"، أو "حل سحري"، مع أنها فعلا تجربة ملهمة ورائدة.
نقلا عن مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية