أجاز استفتاء الخامس أغسطس2017، دمج المجلس الإسلامي الأعلى، ووسيط الجمهورية، والمجلس الأعلى للفتوى والمظالم، في هيئة دستورية موحدة، وهذا يعني أن المشرع قرر لأول مرة، إنشاء هيئة وطنية للتدبير الديني، للجمهورية الإسلامية الموريتانية، تجمع مجالات: "تنظيم الفتوى، وحل المظالم والنزاعات، ورؤى الإرشاد والتوجيه الديني بالتي هي أحسن".
59 سنة، قدمت فيها الدولة الوطنية للمستعمر، ولأذنابه، الكثير: لغة، وتشريعات، وموارد، وهوايات، وتحالفات، ومواقف، و"جواسيس، ومومسات، وجواميس".
زهاء60 سنة، لم يعط فيها وسام شرف لعالم، ولا تأمينا لأرملة شهيد، ولم يقدم فيها تأبينا لمقاوم للمستعمر، وأبناء عناق مداد العلماء ودماء الشهداء عفت ديارهم من رعاية حكومات استقلال "النشيد والعلم"... واستهزئ بهم أيما استهزاء، فكان "المفسدون"، يمنعونهم من الوظيفة العمومية، ومن مراكز القرار، ومن منح الدولة، ومن خيرات الجمهورية، ويضيقون بهم ذرعا ويعيرونهم.. (بأهل العربية لموسخين)... تربت ألسنتهم، وغلت أيديهم بما قالوا.. تعرفونهم.. إنهم سكارى "أم الخبائث"، وندماء "السحرة والكهان، والقلنسوة والصلبان"... (لا خير في كثير من نجواهم).. (لن يضروكم إلا أذى).. وإذا دعوا (لووا رؤوسهم) غيا، وإذا قيل لأحدهم (اتق الله أخذته العزة بالإثم) رياء، وتكبرا.
أكثر من عقدين، أنصفت الجمهورية كل "كادح"، وعزرت كل: "كالح" باسم الحركة، أو الشريحة، أو القبيلة، أو الجهة، أو الطائفة، أو الحزب، وكل "ناعق" باسم المدنية، والحرية، والديمقراطية، والتعددية، والحقوقية، ومنحت الوزارات والمؤسسات، ورسم الخطط، وتدجين المدرسة، وأبواق الإعلام، قسمة ضيزي، بين الحفاة العراة.. من الدين والأخلاق..
وجوِّع من كرس نفسه لخدمة وحدتنا الترابية، وهمش من وقف في الثغور ليحمي رايتنا، وأمن مواطنينا، وترك هملا من بذل عمره ينشر دين الله لا يريد إلا وجهه، لا يريد سلطة ولا جاها ولا تحزبا ولا ثروة، ونسي (الأميلزة) من قضى نحبه يبلغ رسالات الله، لا يخشى إلا الله، من "أهل الدعوة اليابسة"، فقد فضلت حكومات الظل عليهم، "من خان الأمانة، وباع الديانة" بدراهم معدودة، وكان في نهج (المقاومة والتضحية) من الزاهدين.
موريتانيا الجديدة اليوم، آن للمخلصين، والمخلصين من علماء الأمة العدول، وأبناء شهداء الأرض والعلم، أن يمدوا أرجلهم فيها، طولا وعرضا، وهذا يتطلب من الحكومة والبرلمان الجديدين، الوفاء لكل من قاوم من كل أبناء شعبنا، ولكل الشهداء من أبناء جلدتنا، من أجل الحفاظ على هويتنا الثقافية، وصون أصالتنا.. عربا وعجما، حملة سيف أو حملة قلم.
ونظراً لما تتسم به صورة العمل الديني في الوقت الحاضر، محليا وعالميا، فلا بد من إنجاز مقاربة تجديد وترشيد، تجمع بين أسس فكر السلم، وآليات الصلح، وميكانيزمات الإصلاح الديني، وأن تكون هذه المقاربة الموريتانية، نابعة من شريعتنا الإسلامية الغراء، ولأننا ندرك حسن اختيارات فخامة الرئيس عزيز الأحمد، وبرهنت تجارب "الشد والجذب" على فطنة وإخلاص وحكمة العلامة الثبت محمد المختار ولد امباله، وصحبه في المجلس، فتحن نعول عليهم في رفع التحدي الكبير، وكسب الرهان الأكبر.
لقد تطور فقه النوازل عبر الخمسة عشر قرنا من تاريخ أمتنا المسلمة، منذ عصر الصحابة مع معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقد قدم الصحابة كأبي بكر وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم في حل تلك النوازل نصوص القرءان والسنة، وعند عدم ورود نص قدموا الإجماع، والجمع بين النصوص، والمصلحة حيث لا نص.
وقد تطور البحث في أصول الفقه، والجمع بين أدلة النقل وأدلة العقل، منذ وضع الإمام الشافعي أول مؤلف في الأصول (الرسالة ق2 الهجري)، وحرر مراجع الأصول فيها، وأجملها في: (القرءان، السنة، الإجماع، القياس، الاستحسان، واللغة العربية)، وقد أجمع المسلمون على نبوغ هذا الإمام (المطلبي الشافعي)، وإن كان الحنفيَّة خالفوه في الأخْذِ بالاستحسان، والمالكية خالفوه في الأخْذِ بعملِ أهل المدينة كمصدر من مصادر فقهِهم، كما خالفوه في الأخْذ بالذرائع، والمصالح المرسَلة.
واعترف بمنزلة الإمام لشافعي التأسيسية، علماء كل مذهب في مؤلفاتهم، وتباروا في وضع أسس الجاذبية الفكرية، المؤسسة لاستقرار الدول والمجتمعات المسلمة، التي تضم دون إكراه، وتقدم الحلول بالأدلة، ولإدراك الجهد الفكري الكبير الذي بذله العلماء المسلمون في كل العصور، من عهد الإمام الشافعي، إلي عهد الإمام المجدد الشيخ عبد الله بن بيه نذكر على سبيل التأكيد، أهم المؤلفات التي قدمها كبار علماء الأمة المسلمة بكل فخر واعتزاز:
- العهد؛ للقاضي عبد الجبار المعتزلي، المتوفى (415هـ).
- المعتمد؛ لأبي الحسين البصري المعتزلي، المتوفى (463هـ).
- البرهان؛ لأبي المعالي الجويني الشافعي، المتوفى (478هـ).
- المستصفى؛ لأبي حامد الغزالي الشافعي، المتوفى (505هـ).
- المحصول؛ لفخر الدين الرازي الشافعي، المتوفى (606هـ).
- الإحكام؛ لسيف الدين الآمدي الشافعي، المتوفى (631هـ).
- منهاج الوصول؛ للبيضاوي، المتوفى (685 هـ).
- التنقيحات؛ للقرافي المالكي، المتوفى (684هـ).
- منتهى السول؛ لابن الحاجب المالكي، المتوفى (646هـ).
- أصول الكرخي: أبي الحسين بن عبيد الله، المتوفى (340هـ).
- أصول الجصاص: أبي بكر أحمد بن علي، المتوفى (378هـ).
- تقويم الأدلة؛ لأبي زيد الدبوسي، المتوفى (340هـ).
- تمهيد الفصول؛ للسَّرَخْسِي محمد بن أحمد، المتوفى (428هـ).
- الأصول؛ لعلي بن أحمد البزدوي، المتوفى (482هـ).
- كشف الأسرار؛ لعبد العزيز البخاري، المتوفى (730هـ).
- تخريج الفروع على الأصول؛ للزنجاني، المتوفى (656هـ).
- التمهيد؛ لجمال الدين الإسْنَوي الشافعي، المتوفى (772هـ).
- تنقيح الفصول؛ للقرافي المالكي، المتوفى(684).
- القواعد؛ لأبي الحسن الحنبلي، المتوفى (830 هـ).
- بديع النظام؛ لمظفر الدين الساعاتي، المتوفى (694هـ).
- جمع الجوامع؛ للسبكي الشافعي، المتوفى (771هـ).
- تنقيح الأصول؛ لصدر الشريعة الحنفي، المتوفى (654هـ).
- التحرير؛ للكمال بن الهمام الحنفي، المتوفى (861هـ).
- مسلم الثبوت؛ لمحب الدين عبدالشكور، المتوفى (1119هـ).
- إرشاد الفحول؛ للشوكاني، المتوفى (1250هـ).
- الموافقات في أصول الشريعة؛ للشاطبي المالكي، المتوفى (790هـ).
- الأشباه والنظائر؛ لتاج الدين السبكي، المتوفى (772هـ).
- قواعد الأحكام؛ لعز الدين بن عبدالسلام، المتوفى (660هـ).
- القواعد الفقهية؛ لابن رجب الحنبلي، المتوفى (795هـ).
- منثور القواعد؛ لبدر الدين الزركشي، المتوفى (794هـ).
- الأشباه والنظائر؛ لجلال الدين السيوطي، المتوفى (911هـ).
- الفروق؛ لشهاب الدين القَرافي المالكي، المتوفى(684).
- أصول الفقه؛ للشيخ محمد الخضري، المتوفى (1345هـ).
- علم أصول الفقه؛ للشيخ عبدالوهاب خلاف، المتوفى (1955م).
- أصول الفقه: للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة، المتوفى (1974م).
- كتابا "التوضيح والتصحيح" (أصول الفقه)، و"حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح" (شرح على كتاب تنقيح الفصول في الأصول لشهاب الدين القرافي) لمحمد الطاهر بن عاشور (تونس، 1296 هـ/1879-13 رجب 1393 هـ/12 أغسطس 1973) عالم وفقيه تونسي من أصول أندلسية.
- كتابا: "مشاهد من المقاصد" و"إثارات تجديدية في حقول الأصول": للشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، مواليد سنة 1935م في تمبدغة في موريتانيا، أحد أكبر العلماء السنة المعاصرين ورئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، تم اختياره كواحد من أكثر 50 شخصية إسلامية تأثيرا لعام 2009.
وقد ألف العلامة الإمام بن بيه لشباب الأمة، وباحثيها، وساستها، مكتبة كاملة، تمثل اليوم حصيلة لفكر تجديدي شامل من أهم مراجعها:
- تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع.
- إثارات تجديدية في حقول الأصول.
- علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه.
- كتاب مشاهد من المقاصد، الطبعة الثانية 2012 م.
- صناعة الفتوى وفقه الأقليات – الطبعة المغربية.
- حوار عن بعد حول حقوق الإنسان في الإسلام (طبعة مكتبة العبيكان).
- أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات (الجزئين في كتاب واحد).
- مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات.
- الإرهاب: التشخيص والحلول.
- سد الذرائع وتطبيقاته في مجال المعاملات.
- توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل من معاملات الأموال.
- خطاب الأمن في الإسلام وثقافة التسامح والوئام.
- إعمال المصلحة في الوقف.
- البرهان.
- صناعة الفتوى وفقه الأقليات.
- فتاوى فكرية.
ويمكن اليوم أن تقول باعتزاز كبير أن أئمة فكر التجديد الديني، وترشيد الأمة المسلمة ، الذين بدأ رعيلهم المجدد مع الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي (150 – 204 هـ / 767 – 820 م)، وتقدم عطاءهم العلمي بظهور أبو حامد الغزالي، المتوفى (505 هـ) مؤلف "إحياء علوم الدين"، ومرورا بالمجاهد العز بن عبد السلام، المتوفى (660 هـ) الملقب بسلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام، مؤلف "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، المعروف بالقواعد الكبرى، والإمام الجويني، الملقب بـ"إمام الحرمين"، (419 هـ - 478 هـ) مؤلف "الورقات" الذي جمع بين صفة فقيه شافعي وأحد أبرز علماء الدين السنة عامةً والأشاعرة خاصة، والإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي، المتوفى سنة 780 هـ الذي أبرز العناية بأسرار التشريع، قد سلموا الأمانة العلمية - بحمد الله وفضله – إلى ترجمان الأمة اليوم، في هذا العصر المعولم، الإمام العلامة الشيخ عبد الله بن بيه الذي ورث علم السلم والحلم هذا، وهو التاج في العالم الإسلامي والحواضر الكبرى بالحجاز والخليج، وأوربا والمغرب، وفي الأمم المتحدة وأعرق الجامعات، بلا منازع، ولا مستنكف.
فقد وضع الشيخ العلامة بن بيه، تقعيدا شاملا للبحث الفقهي في نوازل هذا العصر، فقنن القواعد الأربعة: الدين كله رحمة، كله مصلحة، كله عدل، كله حكمة، التي بينها المجدد ابن قيّم الجوزية (691 هـ - 751 هـ / 1292م - 1349م)، مؤلف كتب "زاد المعاد في هدي خير العباد" و"إعلام الموقعين عن رب العالمين" و"أحكام أهل الذمة"... وشرح الامام بن بيه بتدبر وروية، القواعد الأصولية العشر في نهج الدعاة، والقضاة، والمفتين:
- لا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
- الاجتهاد لا ينقض بمثله.
- لازم المذهب ليس بمذهب.
- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- إذا تعارض المانع والمقتضي قدم المانع.
- درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
- إذا تعارضت مفسدتان: روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما.
- لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح.
- الأصل براءة الذمة.
وأسس قواعد فقه الحوار والمجادلة، وفقه الأقليات، وفكر محاربة الغلو، بواسطة مناهج جمع أدلة الوحي، والحذر من اجتزاء النصوص أو تصحيف الفتاوى، والاستدلال بالفلسفة والمنطق والعلوم الإنسانية وما حوت من أدلة عقلية، ودعا الجميع إلى معرفة الواقع عن بينة، والنظر إلى المآلات والنتائج، مؤكدا بأن الحل من رحم شريعتنا، لا من خارجها، صادعا بوجوب التسليم لحكم الله بدون اعتراض مكابر، أو تأويل فاسد، أو أخذ بجزئيات نصوص، أو العمل بفروع تعارضها أصول إجماع، أو كليات مدارك.
فكر التجديد والترشيد هذا، (نعمة حبانا الله بها، وفرصة يجب أن لا نبخسها) تتيح للموريتانيين اليوم، منزلة الإمامة العلمية غير المسيسة، هي (زكاتنا للأمة)، التي يمكن أن تشفيها من فتن الشبهات ومن فتن الشهوات ومن الدروب المظلمة لعبادة الرأي وهوى الفرد، وهي (ترياقنا) من تيارات الصدام بين الحاكم والمحكوم في الأمة، والصراعات العبيثية بين السنة والشيعة، واقتتال الطوائف "السلفية" و"الإخوانية"، وجماعات الاقتتال المسلحة بألقابها المتعددة، ونتائجها المتحدة: "أحرار" الشام، والجيش "الحر"، وجيش "بيت المقدس" في سيناء، و"أنصار الله" في اليمن، و"الجيش الشعبي في العراق"، و"القاعدة"، و"الخلافة الموهومة"، في سوريا، و"أنصار الشريعة وبوكو حرام، والسلفية القتالية، وماسينا" في فضاء الساحل والصحراء..
ترياق يجنب الأمة جمعاء، تيارات الفناء (بتعبير بن بيه تنازع البقاء)، ممثلة في مخرجات مثلث الموت والدمار، مثلث حروب: الغزاة، والغلاة، والطغاة... مثلث الربيع الدامي، والشتاء القاني، والصيف اللاهب، والخريف المحبط، نتائج مختبرات جماعات الفكر المأزوم: (فكر الإرهاب والغلو، وشنشنة الكراهية والتكفير)؟.
إن إنشاء هيئة علمية، مثل: المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، مشكلة من كبار علماء الجمهورية الإسلامية الموريتانية، هو نتيجة من أهم نتائج استفاء الخامس أغسطس 2017، وهو إعادة الاعتبار لعطاء عشرة قرون من بركات المدرسة الشنقيطية، التي خرجت آلاف العلماء، والدعاة، والمجاهدين، والوعاظ، ورسل السلام، الذين جابوا مشارق الأرض ومغاربها، وهو انبعاث جديد يؤسس لتميزنا العلمي والدعوي، ولعهد ميمون يعيد الاعتبار لمشاعل العلم والحلم، ولمنابر الاعتدال والهدي، في صحراء "منكبنا البرزخي".
إنه عهد مشرق، يحدد الأولويات، ويطلق برامج الاستثمار في مجال الصلح والتصالح مع الذات، ويستغل عامل الزمن، ونجاحات بلدنا، ويقلع بنا من تدين (اللهوات) للتوفيق في إطفاء الحرائق المشتعلة، وحقن الدماء المسلمة، وإنقاذ شباب الأمة، ونشر قيم السلام، ورفض الاستسلام، لعواطف "المنتحرين"، أو استهزاء "المستهزئين"، أو مطامع "الغزاة والمحتلين".
نحن جديرون بهذه المعلمة، وأن يكون بلدنا مثابة لا شعاعها العلمي، ودوحة يأزر إليها أجاويد علماء الأمة، وأن لا تسرق منا ذاكرتنا العلمية، وجاذبيتنا الثقافية، التي تضم برحمتها وحنانها ولطفها القلوب والأعراق، وتجمع المتخالفين على مائدة التآخي والمحبة، منذ منتصف القرن الخامس الهجري 11 ميلادي، أنشأنا حضارة الأخوة دون رشوة، والمحبة دون إكراه.