على مدار الساعة

صناعة الشيوع.. بين تمرير الإعلام وتشريع المَجامِع اللغوية

12 مايو, 2024 - 15:19
الشريف ولد محمد يحيى

     ..ينصرِف الذّهن إلى مجامع اللغة العربية عند ذكر تعريب الألفاظ والمصطلحات وإجازتها، وهو انصراف مشروع؛ نظرا إلى طبيعة عمل المجامع اللغوية وتفرّغها لتلك المهمة العلمية السامية والرسالة الثقافية الجليلة..

    غير أنّ للإعلام نصيبَه مِن عملية "صناعة الشيوع"، ومن حسن الحظّ أن بواكير الصِّحافة العربية رافقها احتفاء باللغة، على يد جهابذة أفذاذ من نجباء اللغويين العرب، ولا سيما الشّاميِّين، الذين قذفَت بهم صروف الحياة السياسية إلى أرضِ الكنانة -مهبِط النهضة العربية الحديثة- فكانت الضّارةُ السياسية نافعةً ثقافيّة، اجتمع فيها الشمل، وطُويت الشُّقّة، وصافحت القاهرة شقيقاتها القادمات المُحذِيات، فكانت جريدةُ المقطّم -التي أنشأها الأديب اللغويّ اللبناني يعقوب صرّوف (سنة 1888م)، لتمدّ "المقطّم" بسبب -ونَسَب- إلى شقيقتها الكبرى جريدة "الجوائب" (أوّل صحيفة عربية مستقلّة، صدر عددها الأول بتأريخ: 31 مايو 1861م)، التي أنشأها المرجع اللغوي اللبناني أحمد فارس الشّدياق، مخاطِبا القرّاء مِن الآستانة عاصمةِ "الباب العالي"- بلسان عربيٍّ مبين!

    وإنما سُقت هذا الاستطراد التاريخيّ، لأنوّه بإسهامات صاحبِ "الجوائب" ومعاصِريه الشّاميين -والمصريّين- في خدمة اللغة العربية من موقعهم الصِّحافي، فقد أنفق الشّدياق من عمُره سنين في صَوْغ وإخراج لغة صِحافية حديثة سالمة من غواشي الصّنعة البلاغية ومستقبَحات الابتذال اللفظيّ، بالتوازي مع تحرير المصطلحات الحديثة، حيث يذكر له التاريخ أنّه أوّل مَن أدخل مصطلح "الاشتراكيّة" في قاموس الاستعمال العربيّ، وأضاف إلى المعجم العربيّ الحديث مفردات وتعريبات، منها: "العَرَبة"، "العَجَلة"، "المستشفى"، "الباخرة"، "القِطار".... وقد أخّرت هذه الكلمة، لأفردَها بالتعليق الخاطف، فقد شاعت وذاعت حتى غفل الناس عن أصلها اللغوي الذي أُخِذَت منه، وهو الجماعة من الإبل التي يأتي بعضها وراء بعض في نسق تراتبي واحد؛ فكأنّ عربات مركبة السّكّة الحديدية شُبّهت بـ"قِطار" الإبل، لكنّ الذي يقوم في الذهن ويخطر بالبال عند تلقي الكلمة -اليوم- إنما هو ذلك المخترَع العصريّ المعرَّب اسمُه، وقريب من هذا تعريب "السيارة"، الذي نقل اللفظة العربية العتيقة من سياق الدلالة على "مارّة الطريق من المسافرين"، إلى سياق تعريب المخترع العصري الذي أصبحت التسمية علما عليه بسبب الاستخدام المعاصِر واطّراد تداوُله، ولولا ورود لفظة "السيارة" في القرآن الكريم لكانت مثل كلمة "القِطار" التي أُميت استعمالها التراثيّ، وبُعثت في قالب دلالي مختلِف!

   وربّما دار في ذهن قارئ هذه السطور أنّي استرسلت في حديث الصحافة وتاريخها الغابر، وغفلتُ عن العنون أعلاه، لكنّما "الصحافة" (المطبوعة) بذرة "الإعلام" (السمعي/البصري)، ولقد كان الشّدياق -اللبناني- اسما بارزا في هذا الميدان، ميدان التعريب والتّرجمة، وقد شيّع موقفَه "المحافِظ"، بالإنتاجِ المُواكِب، وممّا أُثر عنه، من تعريب مصطلحات "القاموس الإعلامي"، ألفاظ: "المحرِّر"، "المراسِل"، "الجريدة"، "الإعلان".... وقد استقرّت هذه المفردات واطّرد استعمالها واستُهلِكت، حتى لم يعد جانب التعريب فيها يستوقف أحدا، رغم صراع "تنازع البقاء" بينها وبين مقابلاتها "الأجنبية" التي حاول كسالى الكتّاب و"الجرناليين" فرضها وتمريرَها باقيةً على الأصل، أو محلّاة بلام التعريف !

     .. وقد كان الشّدياق ومعاصِروه -الغيارى- يُعمِلون الفكرَ، ويكدّون الذّهن، على حين فترة مِن "المَجامع اللغوية" العربية المؤسَّسية، التي لم يُنشأ أوّلُها إلا في مطلع القرن العشرين (مَجمَع اللغة العربية بدمشق 1919م)..

وقد أخلص "رجال الإعلام" الأوّلون -وتابعوهم بمَعروف- فتفنّنوا في تعريب المصطلحات الأجنبية، وأَطْرِ القارئ على البديل اللفظي الذي أدخَلوه، بل توسّعوا حتى أزالوا غرائبية "التعريب المترجَم" وركاكتَه، ودفَعوا عنه اللّبس والإشكال، وجاهدوا في سبيل تمرير تسميّاتهم "المحدَثة" عبر منبر الصِّحافة.

وإذا كان لمقولة "لا مشاحّة في الاصطلاح" حظّ من النّظر، فإنّه لا مسوِّغ -ولا وجه- للتسليم بخُدعة "خطأ مشهور خير من صواب مهجور"، كبُرَت أُكذوبةً وعظُمَت أُضلولة! 

    ومما يَحضرني من نماذج إعادة صياغة المصطلحات الإعلامية، اختزال عبارة "الغاز المسيل للدموع" -ثلاثية الألفاظ- في كلمتي: "الغاز المُدمِع"، واختصار عبارة "الماء الصّالح للشّرب" في كلمتين، هما: "الماء الشّروب" -قياسا على: "شاة حَلوب"، و"دابّة رَكوب".. ولا يخفى ما في العبارتين الأوليين مِن بيّن الرّكاكة، فهما أقرب للشّرح والتفسير: "الغاز الذي يتسبّب في سيلان الدّموع"، و"الماء الذي هو صالح لأن يُشرب"، وبضغط العبارتين في بديلهما التعديلي تحقّقَت فائدتان: "اقتصادية" و"فنّية"، فقد نَفَى عنهما كِيرُ التحرير الإعلاميّ خبَثَ الحشو اللفظيّ، فلم يبق إلا أن تشيَّع تلك الخطوة بإفشاء التعبيرين، وإحيائهما بكثرة الاستخدام، والبركة في وسائل الإعلام!

   ومما يساعد في فشوّ مثلِ ذين التعبيرين كثرة ورود موجبهما في الأخبار؛ إذ لا تكاد نشرة تخلو من تقرير -أو خبر- يتناول إلقاء قنابل "الغاز المُدمِع" لتفريق المتظاهرين وفضّ المحتجّين، كما لا تكاد تخلو من حديث عن معاناة المواطنين في سبيل الحصول على "الماء الشَّروب"، الذي يكسر العطش ويطفئ الظّمأ..

    هذا، وقد يختصم سلطان الإعلام ومرجعية المَجمع اللغويّ في لفظة -أو تركيب تعبيري- ثمّ يحسم الإعلام المعركة لصالحه، ومِن أحدث التعريبات التي قام فيها الإعلام بدور المَجمع اللغوي، إحلال كلمة "وسْم" لتكون معادلا للفظة "هاشتاغ"، التي لم يُمِتها الإعلام، بل نجّاها ببدنها الحرفيّ، ثمّ ترك للمستخدِم حريّة الاختيار بين ثلاثة أحرف سلِسة سريعة، وستة حروف خشنة ثقيلة!

 .. وكم طوى الإعلامُ بُعدَ الشّقة، فقرَّب ألفاظا كان مستقرّها دواوين الشعر العربيّ وبطون المعاجم، فلمّا نُقِلَت إلى المتلقي -عبر وسائل الإعلام- أصبحت خبزا يوميا يتناوله المواطن إذا أصبح وإذا أمسى، وصارت لفظا مستهلكًا يمرُّ على أذنيه بكرة وعشيّا، بل ربّما أنتجَت كثرةُ التَّرداد الإعلاميّ "تطبيع علاقات" مع مفردات قاموسية متقعِّرة وألفاظ وحشيّة مُخشَوشِنة، وأقرب مثال يحضرني من ذلك: الفعل "تجشّم" وتصريفاته، فقد تعوّدت أذن السامع عبارة "تجشّم عناء الاتصال" مِن كثرة ورودها في برامج المسابقات -والإهداءات- الإذاعية: "نشكر كلّ مَن تجشّم عناء الاتصال"!.. 

ومثلما أنّ المتلقي ليس يَحتاج الرّجوعَ إلى المعجم اللغوي ليعرف معنى كلمة التكلُّف، فكذلك السّامع لا يحتاج إلى فتح القاموس المحيط -أو لسان العرب- ليَعرف معنى كلمة "تجشّم"؛ ليس لسهولتها وتبادُرها، بل لـ"شيوعها" الذي هو فرع عن "استخدامها الإعلامي"، الذي بعثها من مرقدِها التراثيّ، وأخرجَها من بطون القواميس العتيقة إلى متناول المواطن البسيط.. وكذلك يَفعل الإعلام إذا أراد نشر مفردة أو فَرضَ مصطلح.. وإن هو أراد غيرَ ذلك أشاع ألفاظا وتراكيبَ ثمّ أجراها على ألسنة متسوِّري محراب التحرير الإعلامي، بل ربّما ابتلى بها المتمكِّنين، فانطلقَت ألسنتهم وجرت أقلامهم بطوامَّ تعبيرية تستسلم لركاكة الترجمة الساذجة، أو تستنسخ الأسلوب اللهجي الدّارج، كما في عبارة "هكذا قضايا"، التي هي مأخوذة -بشكل مباشر- عن اللهجة الشامية: "هيك قضايا"، "هيك حكي"، وهلمّ جرا..!