على مدار الساعة

ذكريات مع جمال ولد الحسن أو عنه

5 يونيو, 2024 - 09:02
د. محمد المختار ولد الدمين  مدير مركز الجزيرة للدراسات

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى وسلم على محمد وآله

 

ذكريات مع جمال ولد الحسن أو عنه

 (1378هـ/ 1959م- 1422هـ/2001م)

 

يخترم المنون الأصفياء، ويُهلِك السُّل الشباب أسرع من الشيب، وتفتك العبقرية بصاحبها، وفي القصة المشهورة عند ابن رشيق في العمدة (1/ 192) أن فيلسوف العرب أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185هـ-256هـ) لما رأى من بديهة الشاعر الحكيم أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (188 - 231 هـ) ما رأى في حضرة أحمد بن المعتصم قال: "هذا الفتى قليل العمر؛ لأنه ‌ينحت ‌من ‌قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك"، ولم يعش أبو تمام إلا زهاء الأربعين عاماً. ولعمري لقد كان جمال ينحت من قلبه ومن عقله ومن فكره.

 

جمال ولد الحسن مفكر وعالم وأديب ومؤرخ ونسابة -وقل ما شئت- اخترمته يد المنون في سني العطاء، وصدق علامة موريتانيا المغفور له محمد سالم بن عدود (1348-1430هـ) عندما قال عندما قال إنه: (ذهب طولُ عمره في عَرضه) كنايةً علن العمق مقابل الطول، فلئن لم يعش جمال عمرا طويلا فقد عاش عمرا عريضا.

 

وهذا المعنى هو الذي ذهب إليه الأستاذ الخليل النحوي، رئيس اتحاد الأدباء الموريتانيين، في مرثيته الرنانة لأديب موريتانيا الأول:

طَوَيْتَ القرْنَ، فِي عقْدٍ، عَطاءً *** وشبْرا، إذ قطعتَ، قطعتَ باعا.

 

وهو نص ملتاع يقول فيه:

أترحل هكذا عنا وتطوي *** كتابك والصحيفة واليراعا

وعلما كم سقيت به ظماء *** وفهما كم غذوت به جياعا

ووجها ضاحكا طلقا بشوشا *** وكفّاً بَضّة ويدا صَناعا

وسمتا في الهدى سمحا سديدا *** قويما، لا اعوجاج ولا ابتداعا

أترحل هكذا عنا وتطوي ***  حديثا لا نمل له استماعا

وقولا في بساط الحق فصلا *** وسعيا صالحا وندى مشاعا

وتطويحا بآفاق المعاني *** وقنصا للشوارد وافتراعا

 

كان النحوي أثبت جنانا وأطلق لسانا حين رثى جمال وجرح رحيله غض، أمَّا ما أكتبه اليوم فنفثة مصدور ترددت ثلاثة وعشرين عاما عن إذاعتها، عقدين صمتُّ فيهما، فلم أتحدث عن جمال ولم أتكلم عنه في أي محفل عام، رغم عمق معرفتي به وصداقتي له، مع فارق السن والمعرفة والتفكير.

وقد عرفت حال الصمت هذا قبله في رحيل والديَّ رحمهم الله جميعا، فتأكدت أن الرثاء والنعي لا علاقة لهما بالمحبة ولا بحسن الصلة ولا جميل التذكر، فلم أتحدث عن جمال على منبر منذ وفاته؛ ولم أتكلم عنه في منصة؛ وقد يقول قائل إن ذلك ربما لأنني لم أدع، وأخطأ التقدير، فلقد دعيت عدة مرات واعتذرت، فهول المصاب عندي أعظم من كل حديث، والرجل -محبة ً- في منزلة من عجزت عن نعيهم ومنهم والداي، ووُفِّق من قال: إن المصاب يعقد اللسان.

 

لقد كان مصابه عظيما، وإن شئت فاستمع لما قال الشاعر التقي ولد الشيخ في نعيه:

أودى جمال فأودى الشعر والأدب *** وغصّ من نادبيه الصوب والحدب

أودى ففي كل جفن من مصيبته *** وبلٌ، وفي كل قلب نابض لهب

قد كان بدرا فما زانته هالته *** حتى رماه من أسباب الردى سبب

 

حديث البدايات

 

عرفت جمالا وله من اسمه حظ -وهي ملاحظة سبقني غيري في تسجيلها، لا في إدراكها- في الثمانينيات، حين كان ملء السمع والبصر في منابر نواكشوط الثقافية والعلمية، لا يضاهيه متحدث، ولا يقترب من منزلته أديب، ولا ينافسه مدرس ولا يجاريه خطيب، سعةَ ثقافة وعمقَ معرفة، وبيان قول، وتبيُّن فكرة، ونفوذ بصيرة.

 

كان متدفق اللفظ والفكرة، قريب المأخذ، دقيق التعليل، عميق التحليل، لا يلحن في جد ولا هزل، رأيته ينفض أذنه عند سماع اللحن ويستغفر منه عند سبق اللسان وقليلا ما يحدث ذلك، بل كان -خلافا لقومنا- معتنيا بمخارج الحروف، وبمحامل الألفاظ في سياقاتها المعرفية، وبتجويد العبارات دون تكلف، حتى تبدو وكأنه لم يسبق إليها.

 

وأضيف؛ فقد رأيته في جامعة نواكشوط التي ترأس فيها قسم الترجمة، يترجم فوريا مرتين؛ إحداهما من الفرنسية والأخرى من الإنجليزية، وقمن بمن كان ذلك مستواه في العربية؛ ألا يتحدث بلغة أخرى إلا وهو راض عن مستواه فيها، والله الموفق والمعطي.

 

حضرتُ له محاضرة في وقت يشبه جو مارس عام 1983 أو 1984، لأني أستحضر صورته في غبار مكفهر، متلفعا بلثامه مبتزا قميص صوف تنطبع صورته في ذهني إلى الآن.

 

وقد كان خرج للتو من محاضرة في قاعات المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وكان موضوعها عاما في الفكر الإسلامي، ولا أذكر العنوان بالضبط.

 

وغالب ظني أن عريف الحفل في تلك المحاضرة كان تلميذه سيدي محمد ولد محم؛ الطالب يومئذ بالمعهد والسياسي المشار إليه بالبنان اليوم، وهذا ترب محمد جميل ولد منصور -القيادي الإسلامي والسياسي البارز اليوم- في التتلمذ على جمال بل إنه أشرف على رسالتيهما، وإن صح التذكر فقد كانت رسالة ولد محم عن الحاكمية عند سيد قطب، بينما كانت رسالة ولد منصور؛ عن الخطاب السياسي لحزب الشعب الموريتاني، وقد حضرت النقاشين صائفة 1986 في مباني المعهد، وأنا أتهيأ عامها لولوج الجامعة العام الجديد.

 

كنت يوم أول لقاء تلميذا في السنة الثالثة من الإعدادية، وعليه فإن إدراكي الفكري غير ناضج قطعا، وما أرويه عن تلك البواكير في تلك الناحية إنما هو مما انطبع في الذهن، لا مما صقله العقل ووعاه حق وعيه، أما الذكريات فما تزال ندية حاضرة.

 

كان التدافع الفكري عنوان اللحظة، كانت حركات اليسار منسربة في شقوق الأنظمة حاضرة في توجيه الإعلام والمنابر الرسمية ومنها الجامعة، وكانت الحركات القومية بعثية وناصرية؛ في عنفوانها، وكان الإسلاميون يتلمسون طريقهم بحثا عن موقع ومنزلة، وكان الحديث الفكري صاخبا؛ إن لم يكن محتواه عنيفا لفظيا وذهنيا.

 

وكان جمال ممن أوتي بيان مفكر يسوّق الفكرة، ومنهجيةَ أستاذ يشرح ويمثل، ولسان بليغ يخطب من غير تكلف ولا عنتريات، وكان يقف على أرضية صلبة من الفكر الإسلامي والالتزام الشرعي، تنأى به عن الميوعة الفكرية وعن التصابي الاجتماعي، لقد قال وهو قريب من تلك الأيام معلقا على صورة له بعث بها إلى من تعنيه:

هذه صورتي تمثل شمسي *** وحياتي في عنفوان الشباب

نظرة تفحص الغيوب ووجه ***  فيه روح الصبا ورفض التصابي

وعلى الكل مسحة من طموح ***  تتجلى في حيرة واضطراب

 

ولعل ذلك هو ما عناه صديقه ومحبه الشيخ محمد الحسن الددو في مرثيته له:

من أعزي في أي وصف أعزي٠٠ ما أوفيك في المجالين حقا

أأعزي ثقافة العصر أم ما٠٠ ورث الأقدمون مما تبقى

أم أعزي الحروف حرفا فحرفا٠٠ أم أعزي الأوراق رقا فرقا

أم أعزي الأنام إذ لست أدري٠٠ أيهم كان بالتعازي أحقا؟

 

وهنا أقتبس كِلْمة – وكلمة بها كلام قد يؤم- لتلميذ جمال؛ محمد جميل منصور ناعيا له غبّ وفاته: "الدكتور جمال... جمع حسن الأخلاق مع عزة المحاور، ودقة المؤرخ مع انسيابية الأديب، وأصالة الفقيه مع حداثة المثقف، يحب العربية والعروبة لكنه يكره العصبية والعنصرية، يؤمن بانتماء موريتانيا شمالا ولكنه يفهم دورها جنوبا، له بعد صوفي لا يخفى ولا شطحَ ثَمَّ، له استقامة وزهد دون ابتذال، محظريته مفخرة لا يخجل منها؛ وعصرنته حقيقة لا تفتنه".

 

لمحات فكرية

 

وإنني لأفضل الحديث عن ذكريات علمية وفكرية مع الرجل الذي لم يتسنّ لي الجلوس الكافي معه، وإن كنت حريصا على حضور محاضراته العامة في المدارس العليا وفي المنابر الشائعة يومئذ كالجمعية الثقافية الإسلامية، وجمعية غرناطة القومية، وفي أندية شباب وروابط الطلبة في المعهد العالي ومدرسة الأساتذة وكلية الآداب.

 

على أن الله منَّ علي لا حقا بالمقام معه أياما في بيته العامر بضاحية مدينة الرباط خريف 1990، فجالسني وباسطني وصحبني في غدوته وروحته، حيث كان يومئذ خبيرا في المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، وكنت موظفا مبتدئا صغيرا زائرا للمغرب، فاستضافني ومعي يحيى الهاشمي رئيس جمعية غرناطة يومئذ، وكنت الضيف المدلل؛ فعن كرمه وأريحيته حدث ولا حرج، وقد رفض -وحسنا فعل فلم يكن معي درهم صبيحتها- أن أسافر إلى المطار في النقل العام فاصطحبني بسيارته التي يقول فيها:

عَنْدِي كَهْلَتْ وَتَاتْ * خَاترْهَا عَنْ لخْرَاتْ

لمْتَانَاتْ الزَّيْنَاتْ * وَتَاتْ أَهْلْ التّشْهَارْ

وهيَ مَا منْهَا تَاتْ * يَكُونْ اطْرِيحْ الْعَارْ

لُگُوفْ افْگرَجَاتْ * مَصْ أُجُوهْ التّجَّارْ

وامْهِينَ كَانْ امْشَاتْ * أَلَّا تحْبِي تجَّارْ

واتْغَدَّجْ گاعْ اعْيَاتْ * إِعَيْثَرْهَا لغْيَارْ

مَاهْ ابَّاسْ ابْلَا ذَاتْ * وامْضَيَّعْهَا لحْمَارْ

غَيْرْ أَلَّ گطّتْ رَاتْ * لَيْلَه بَيْظَا وانْهَارْ.

 

أما "مص وجوه التجار" الوارد؛ فالواقع منه ما يقصد من بديع في الجناس التام بين اللفظين، وأما حقيقته فمن كذب الشعراء المباح، فلو كان "يمص الوجوه" ما غادر نواكشوط.

 

معارضة نسقية

 

وهنا أذكر أنه خرج من البلاد مستشعرا سوء خيارات النظام الحاكم حينها، حدثني أنه كان يلبس البدلة ويحرص على ذلك، حتى إذا جعل معاوية ذلك قرارا إلزاميا للموظفين، استعاض عن البلدلة بالدراعة، فهو لا يرى في التحديث المفروض حقا للنظام ويأبى أن يخضع، وقد قال إن أحد المقربين من النظام أبلغه أن القوم يرون في ذلك معارضة، خاصة أنه كان يلتزم بالعمل به من غير تعميم، فلم ينكر ولم يمجمج.

 

كان يرى في نظام ولد الطايع حالة من التغريب والتحديث القسري؛ لا يمكن السكوت عليها، ولم يكن يرى الخضوع لها ولا التصالح معها، وكان يقول إن "العقيد" يبطن سوءا؛ ما فتئ يتكشف حتى كان التطبيع؛ فآلى لا يعود للبلاد إلا زائرا، حتى أتته المنية في غربته الاختيارية القسرية.

 

ورث جمال من والده محمد عبد الله (ت 7 نوفمبر 1987م) روحا معارضة، فالرجل رغم أنه من تراجمة الإدارة أيام الفرنسيين، ومن مسؤولي الدولة الوليدة، كان يرى أن أوضاع البلد مزرية، ولم يمنعه قربه من الرئيس المختار ولد داداه التعبير عن ذلك فقال كافه المشهور:

سابك نكرف *** بعد الساني

يوجع ويشف *** موريتاني.

 

ومعروف كذلك؛ أنه كان على رأس رافضي المجلس الاسستشاري الذي عينه العكسر بديلا عن البرلمان مطلع الثمانينيات بعد الانقلاب على ولد داداه 1978؛ وهو مجلس لم تقم له قائمة.

 

وأذكر أن جمالا حدث عن الحضور اليساري المبكر في مقاطعة المذرذره مسقط رأسه، ومنه تكليفه من قبل خلية يسارية -عرفت فيما بعد أن شقيقه الأكبر كان يقودها- بإلقاء خطاب "كادح" أمام المختار ولد داداه إبان زيارته لهم، حيث أوقفوه على مهراس أو برميل لصغر سنه؛ حتى يتبينه القوم، والقصة معروفة ومعروف ما انجر عنها.

 

وعلى كل فقد هُمش والده أخريات سني نظام ولد داداه، وما ذلك إلا لموقفه من مسلكيات النظام خاصة من السيدة الأولى مريم داداه،  وهي مسلكيات ليبرالية ويسارية لا يمكن لمحافظ أصيل الرضى بها.

ولعل تلك الروح في جمال؛ هي ما أشار إليه صديقه الخليل النحوي بقوله:

هوتْ هامُ الرِّجَالِ، وظَلـْتْ شهْما*** نَقِيا.. طاهرا.. ندْبًا.. شجاعا

تَشعُّ سنًى.. على وطَنٍ عزيزٍ*** أضاعَ فَتًّى، وَأيّ فتًى أضاعا

 

الدولة والمجتمع

 

أذكر أن جمالا طرح كثيرا من الأفكار التي عرضها بالحجة القوية والبيان المبيّن، فكانت له مزية المحاججة عنها، وفضل اجتراح تلك الأفكار وافتراعها قبل غيره، أو قولبتها في تعبير محكم وصياغة سيارة.

 

مما تحدث به حينها عن فكرة الدولة عندنا؛ أن الدولة أكبر من المجتمع، ومقولِبة له، ولم ينتجها المجتمع بل استِيردت له، ويؤكد على أسبقية الدولة على المجتمع في بلادنا، عكس مسيرة البشرية تاريخيا؛ حيث الدولة تعبير عن تطور المجتمع، بينما هي عندنا كيان أكبر وأقوى، ولذا فالدولة عنده كيان مستورد مفروض، لم يتطور إليه المجتمع، ولم يسع إليه، بل جيء بها لتكون خيمة تسع الجميع بغض النظرعن استعداداتهم وتفاوتاتهم ومطامحهم ومطامعهم، وهو يقول عن تلك الخيمة إنها "خيمة كبلاني" التي أريد منها أن تسع الجميع، فاتصفت بالحربائية الثقافية والميوعة الفكرية، هذه الدولة عنده ابنة بيئة السباخ، فهي "هشة تبتلع كلما يرد إليها فتكسبه طعمها وميوعتها".

 

كان يرى أن دولة كبلاني -وهو إذ يصفها بذلك يرى الواقع حينها امتدادا لها- مسخ هوياتي وغثاء سيل، تفتقر إلى صلابة الهوية المؤسسة على أرضية الثقافة الأصيلة للمجتمع، وهذه الدولة عنده هي أداة إدماج واستيعاب بما هي مستوردة متحكم فيها لا بما هي تعبير عن غاية المجتمع المعبرة عنه.

 

كان يرى أن موريتانيا جزء أصيل من جغرافيتها، وأن تأثيراتها وتأثرها شمالا وجنوبا حاضر في كل تاريخها، فالمشروع المرابطي امتد وآتى أكله شمالا، ومشروع حركة التوبة أو الإمام ناصر الدين نجح جنوبا وتأثيره بقي وتجسد في دولة وحركة إصلاح تركا بصمات باقية.

 

التحولات الثقافية

 

كما أذكر في حديثه عن التحولات الثقافية والمجتمعية تركيزه الدائم على التضاد بين مدرستي الحداثة والأصالة، ويرى أن الحداثة انقلابية سلطوية تريد السلطة لتفرض بها قيمها، حيث لا تستطيع التبشير بقيمها بعيدا عن سلطان القوة والقهر في مجتمع إسلامي يرى فيها الوافد الغريب والدعي الزنيم، كما يرى أن الأصالة منشغلة برد الهجمة الفكرية، وهكذا فالحداثة في حالة هجوم مطلق، والأصالة في حالة دفاع مستمر، وفي هذه الخلاصة ما فيها مما يساعد -لا عندنا فقط؛ بل في جميع الوطنين العربي والإسلامي- في فهم حال التدافع بين الأصيل والوافد.

 

ومما نبه عليه؛ أن الموريتانيين متخلفون عن المشرق في تلقي الأفكار؛ فالفكرة بعد أن يتداولها الغربيون، ثم تنتقل وتستوطن وتلفظ من مشارقة العرب، ترد إلى موريتانيا؛ فيبدأ القوم نقاشها دون انتباه إلى مراحلها الزمنية وبيئاتها السابقة عليهم، ولو انتبهوا لذلك؛ لكسبوا وقتا واطرحوا جدالا في موضوعات ميتة تاريخيا؛ متجاوزة فكريا.

 

ولأول مرة أسمع عن المفكر الفلسطيني منير شفيق كان في إحدى محاضراته حيث استخدم أحد عناوينه -في أحد كتابيه  "الإسلام في معركة الحضارة" أو "الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر- "باب في شن حرب شاملة ضد حرب شاملة". وكان معجبا بنقد الرجل للدولة الوطنية بتعبير جمال؛ أو القومية بتعبير منير شفيق؛ كما كان ناقدا للحداثة الغربية ومرامي العولمة الشائعة مطلع التسعينيات.

 

عمق الروافد وتعددها

 

وقد تعددت روافد جمال الثقافية والفكرية؛ مما أعطاه تميزا عن أغلب أقرانه، فقد حصل على تعليم أصلي متين قوامه التكوين المحظري الشائع عمقا وأفقا في مجتمعه الخاص، حيث محاظر بعمق مئات السنين في مختلف الفنون، ثم واكب التعليم النظام مبكرا، فدرس في المدارس الفرنكفونية في البلاد يومئذ، وفي تونس والسنغال خاصة في مرحلة التأسيس، أيام كان والده سفيرا في الدولتين، ثم كان التكوين الجامعي وما بعده في تونس بورقيبة؛ التي تسيطر عليها علمانية متوحشة يكفي فيها ما قال بورقية نفسه من أنه أتاتورك الناجح.

 

وكان في تونس لنحلة اليسار المتمكن منهجيا من الأدوات الغربية والممتلئ حد الثمالة بثقافة معادية للدين مناهضة له؛ تأثيره في تكوين جمال، حيث يعزو لكتب منير شفيق التي أشرنا إليها من قبل؛ دورها في تأطيره وتحصينه من ذلك الطغيان الجارف، ولعل في أفكار المفكر القادم من عمق اليسار ما أنقذ الشاب المتلقي عن فطاحلته.

 

وجمال من قبل صوفي سني مخبت، ومريد من غير دروشة ولا خنوع ولا شطح ولا تفلت ولا ادعاء ولا تجاوز، ولعل مرد ذلك القرابة الروحية والرحمية بينه وبين جنيد العصر وعلامته؛ اباه ولد عبد الله شيخ محضرة النباغية، وهو عالم البلاد المشار إليه بالبنان في كل محفل، وهو شيخ آثر العلم وأهله، والزهد ومسلكه، ونأى بنفسه عن مواطن الخلاف والريب، في وعي تام لمعركة الوعي ومقاصد العدو وتجليات الإصلاح وأسبابه.

 

كان جمال دقيقا في تعابيره وصياغاته، فهو يأخذ على الموريتانيين تلك المنهجية  البدوية السائدة التي تستسهل الإطلاق والدعاوى في كل تخصص واتجاه وكان يقول إنها تتلخص في قول الشاعر:

ليس على الله بمستبعد *** أن يجمع العالم في واحد

فالموريتاني يساري في إهاب يميني، قومي في جلد أممي، وأممي بقلب قبلي، وهلم جرا من جمع المتناقضات دون تمثل أي منها، فهو يريد جمع حسنات الدنيا كلها دون نضال ولا جهد ولا إعمال نظر.

ويلخص ذلك في بيت لشاعر موريتاني يتحدث عن القوم:

جيل من الناس لا عجم ولا عرب *** شيء هنالك بين الماء والطين.

 

حضرت كثيرا من مناقشات الرسائل التي أشرف عليها، أو كان في لجنة نقاشها، وأذكر أنه بنى عندي فكرة منهجية أساسية، وهي العناية بالتفريق بين المصادر والمراجع، وهي إشكالية أساسية في البحث العلمي، لو انتُبِه إليها؛ لتجاوزنا كثيرا من الخلافات والشحناء والنقاش العقيم، ولَمات كثير مما يُدّعى أنه أفكار وهو مسروق عن قوم أو مجتزأ من غير مصدر أو منقول من غير سند، ألا ترى الحداثيين ينقلون عن الإسلام ومرجعهم أقاصيص "الأغاني" وحكايات ألف ليلة ولية وغيرها، وأن كثيرا من الأكاديميين لا يفرقون بين الأسانيد ولا يعرفون الفرق بين التفسير وعلوم القرآن وأقاصيص "إعلام الناس"، فضلا عن القراءات في فهم النص المحكم؟!

 

وأذكر أن أحد المدرسين كان معه في نقاش رسالة؛ فقال هذا المناقش للطالب إنه لم يعرف الفرق بين المصدر والمرجع؛ إذ يراهما شيئا واحدا؛ فقال له جمال بطرافته المعهودة: ذلك خطأ تعلمه مني.

 

وكان مما يلفت إليه الانتباه في تلك المناقشات؛ تسرب أساليب العامية في الكتابة الفصحى، ويحضرني من طرافته أنه قال لأحدهم هذا أسلوب بيظاني أو حساني؛ فاستشاط وقال لم أقل بأن الجملة كذا، فرد عليه جمال: "هذه الباء التي سبقت إن؛ هي مما نبهتكم عليه".

 

ولا أظن أحدا من ذلك الجيل إلا سمع أو عايش بعضا من حضور بديهته اللافتة، فقد كان  حديد الفكر بليغ اللسان سريع البديهة.

 

اذكر أنه في محاضرة بالمعهد العالي كان تناول مقولة -أطلقها أحد المشاركين في الندوة- وهي أن "الإسلام ليس انتماء" بكثير من النقد المؤسس على فهم أصولي ولغوي وقرآني متين، عقب عليه هذا القومي الناصري قائلا أشم في كلامكم – يعني جمالا- رائحة الشعوبية فقال جمال: أما أنا فلا أتعامل مع الأفكار بأنفي.

 

واستهل رئيس الجامعة -وهو من مثقفي اليسار حينها- الحديث أمامه في ندوة عامة، فأطال في غير فائدة، فعقب عليه بأن صاحب المقدمة حديث عهد على ما يبدو بقراءة مقدمة ابن خلدون.

وكان في حضوره واستحضاره يستشهد بالأمثال والشعر العامي استشهاده بهما فصيحين، وذلك مما يعجز عنه كثير من صانعي الكلام حينها، وأذكر من ذلك استشهاده بطلعة الديماني المهاجر شمالا أيام الاستعمار الفرنسي سيديا ولد قطرب:

سلكني يالرب من النار *** عاكب ذا من روغ الكفار

مرّكني كولونل ديار *** ما نعازم عنهم نرحل

كست اطار وجاني فطار *** وتركت اطار الكولنل

كست التل أ كاره دخليه *** ما نبغ كنت انكيس التل

يغير ابلد كامل ما فيه *** كولنل ألا متعدل

وكان رحمه الله أول من أذاع قصيدة العلامة محمد العاقب ول مايابى  (1275 – 1327هـ) عن الاستعمار التي يقول فيها:

مني إلى من في حمى المكبل *** لكركل لما وراء العقل

أعيذكم بالله من فضيحة الد  ***   نيا ومن رأيكم المفيل

لا تشتروا دنية بدينكم  ***   لم يرضها غير الدني الأرذل

ترجون أمن الكافرين بعدما  ***   نفاه نص المحكم المنزل

قد أخذ الله عليهم عهده  ***  أن يؤمنوا بالعربي المرسل

فنقضوا ميثاقه وأنتمُ   ***  ترجون منهمُ وفا السموأل

تالله ما لكافر عهد ولا  ***  له ألية إذا ما يأتلي ...

 

وكان في استنطاقه لنصوص الشعر العامي والفصيح آية في العذوبة، وإن شئت فاستمع إليه في درسه الأدبي المشهور؛ الذي افتتح به تدريسه للأدب الموريتاني في الجامعة؛ حين يتوقف عند قطعة امحمد ولد أحمد يوره:

 

على الربع بالمدروم أيه وحيه **** وإن كان لا يدري جواب المؤيه
وقفت به جذلان نفس كأنما **** وقفت على ليلاه فيه وميه
وقلت لخل طالما قد ألفتـــه **** وأدنيته من دون فتيان حيه
أعني بصوب الدمع من بعد صونه **** ونشر سرير الشوق من بعد طيه
فما أنت خل المرء في حال رشده **** إذا كنت غير الخل في حال غيه

 

وقد نشر تربه محمدن الملقب بدنَّا تقريرا عن تلك المحاضرة جدير بالقراءة، وهو منشور سيار يمكن الرجوع إليه هنا:

https://amp.mr/?q=node/3778

 

ومن ملاحظات جمال رحمه الله الذكية والدقيقة تعليقه على قول امحمد ول احمد يوره:

مغانٍ بذات الطبل لا غبها الوبلُ ***  ولا غبّ أياما مضين بها قبلُ

بها ابتلّ جفني و الحشا متحرقٌ ***  ورقّ اصطباري بينها و الهوى عبلُ

غمزتُ بذات الطبل عيني عن البكا *** فجادت بأضعاف كما يُغمز الطبلُ

حيث يقول رحمه الله إن امحمد أراد أن يجعل الزمان مكانا، بدليل استسقائه للزمان في قوله: "و لا غبّ أياما"، فكأنه يبحث أو يتحدث عن مكان يسمى "أيام ما قبل ذات الطبل".

 

ومما يستعذب أنه كان يتحدث عن ظاهرة تحتاج إلى التفسير في اللهجة وهي استعمال صيغة المبالغة بدل اسم الفاعل، حيث يقولون كَتّاب ورَكّاب بدل كاتب وراكب، فقال له أحد الطلبة وحراق فرد عليه ودصَّار!

 

وفي تعليقه على قطعة ابن أحمد يوره السابقة، تدخل أحد الطلبة فقال له: يا أستاذ أنت تلفظ "المدروم" براء مرققة، فهل سمعت الشاعر ينطقه كذلك؟ فأجاب جمال: أنا لم أسمع الشاعر ينطق المدروم براء مرققة، وأنت كذلك لم تسمعه ينطقه براء مفخمة.

 

لقد كان جمال في لحطة تاريخية تحتاج التعريف بموريتانيا تاريخها وأعلامها وشعرها ونثرها، فعمل على هذا المنحى، كما عمل على مناح متعددة، وأذكر أيام زيارتي له في المغرب عام 1990 أنه كان على وشك الكتابة عن العرفان في الثقافة الإسلامية وكان العنوان الذي اختاره "في القرآن عرفان يا جابري"، وهذا من مناقشته للجابري، فيما أرورد في ثلاثية العقل العربي عن العرفان مما لا يوافقه فيه، ولا أدري ما فعل الله بتلك الفكرة وهل ما كان في يده من بدايات تسويد عنها ما زال موجودا أم ضاع؟.

 

وجمال فوق اشتغاله بكل ذلك؛ شاعر بالفصحى وبالعامية؛ وناثر من أحسن من ألف وكتب في تلك البلاد وغيرها، وفي كتابته كما في محاضراته؛ من وقوف على صحيح الأسلوب ودقيق الاستخدام وصحة المبنى ودقة المعنى ما يبهر القارئ، ولعل في طلبته في الآداب وأنباه أهل اليوم من يلتفت لتلك الظاهرة فيكتب عنها.

 

ومن شعره

انا قيس ليلى ذكرها ابدا ذكري *** وذكري لها ذكر وحسبك من فخر

ولافضل لي في الذكر إن ذُكر اسمُها *** فعن امر ليلى كان ما كان لا أمري

وإن امرأ منكم خطرتُ بباله *** وقد ذكرت ليلى لمستوجب شكري

 

ومنه متغزلا:

بنفسي –وهَونٌ فيه أن أتلف النفسا- *** طويلب علم ما وجدت له جنسا
أتـاحت لنا بعض اللـيالي لـقاءه       *** فلـقنته درسا و لقنني درسـا
ألـقـنه درسـاً فينسى وحسـنه *** يلقنني درساً من الوجد لا يُنسى
لئن حال صرف الـدهر بيني وبينه *** وأمسى محل الدرس في نفسه درسا
لقد ذكـرتــني أشـهــر الـبعد بــعــده *** دروس هـــيام لا أمـــر و لا أقــسى

 

ومنه وقد عاد إلى تلك الضاحية في داكار، والتي أقام بها وهو طفل مع والده السفير أو زار شيخه فيها فعاودته الذكرى، حنينا إلى أي منهما أو لهما معا لمَ لا؟:

أوَكامُ من بُعدٍ عليكَ سلامُ *** ذهبت بحرّ جمالك الأيامُ

أنكرتُ منكَ وقد عرفتُ معالما *** وبَدت وقد خَفيت بك الأعلامُ

أوهمتٓ لي هذي ولي أبهمتٓ ذي *** فتدافعَ الإيهامُ والإبهامُ

أنكرتٓ مني مثلما أنكرتُ منـ *** ـكٓ فطيُّ صمتِك ياوكامُ كلامُ

ولقدْ تركتُك والزمانُ مُدٓلِّلي *** وأنا على كتِفِ الزمانِ غُلامُ

فعجِبتٓ من شيبي ومن صٓلعي وأنْ *** قد ليثَ من دونِ اللِّثامِ لثامُ

مرّتْ سنينٌ يا وكامُ كثيرةٌ *** ودٓهتْ خُطوبٌ يا وكامُ جسامُ

وتفٓرقٓ الحيُ المقيمُ وقُطِّعتْ *** بينٓ الأحِبةِ يا وكامُ زمامُ

سُقيًا لعهدِكٓ يا وكامُ فإنه *** عهدٌ له دون العهود ذِمامُ

 

وتوقف مليا يا قارئ السطور عند تلك الصورة، ولو كان في الشعر محل سجود لكانت؛ وهل تعرف من سبقه إليها؟!

 

وله في إحدى زياراته للمدينة المنورة، وكان يلتزم ذلك بشكل دائم، ويشير هنا إلى لقاء له فيها -على ما يبدو- مع شيخه اباه حفظه الله:

إني إذا ما جئتُ طيبةَ زائرًا *** و جَلستُ منها بالمكانِ الأرحبِ

وكحَلتُ بالأنوارِ منها مُقلتي *** ولثَمتُ مِسكًا من ثَراها الطّيبِ

وأسَمْتُ نفسي في أنيقِ رياضِها *** وقَضيتُ من تلكَ الأماكنِ مأربي

لم أنسَ ذِكرَ أحبةٍ لاقيتُهم *** فيها على شَوقٍ وطولِ ترقّبِ

قومٌ إذا نالُوا المُنى من طيبةٍ *** في طيبةٍ وحُبوا بأشرفِ مَطلب

دَلّوا على ذاكَ الجمالِ جَليسَهم *** من خَلفِ سترٍ بالجلال مُحَجّبِ

وسَقوهُ فضلةَ كأسِهم ممزوجةً *** لو ناوَلُوهُ صريحَها لم يَشرَبِ

لازال عهدُ لقائِهم في طيبةٍ *** يُسقي الغمامَ من الوليِ الصَّـيِّـبِ

وأعادَ ذو الافضالِ منهُ نفحةً *** تقَضِي حَوائجَ حاضرينَ وغُيّبِ

 

رحم الله جمالا وأثابه أحسن ما يثيب أهل محبة نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

والغريب ها هنا والشيء بالشيء يذكر، أن جمالا كان يعدني بزيارة اباه برفقته، فشتت الغربة بيننا ولم نلتق بعد عام 1994 كفاحا، فكنت بعيد وفاته في المدينة النبوية وفي الروضة النبوية بالذات عام 2002 أو 2003، فرأيت الشيخ اباه فجلست إلى جواره، وحدثته بما كان، فعلت وجهه مسحة حزن لم تخف في عينيه وشفتيه، ودعا له ولي وأثنى عليه خيرا، وحض على إكمال المشروع وهو ما لم يتم بعد للأسف.

 

ومن شعره اللهجي:

يالله بعد انت عالم٠٠ بلَّلي اندور وانقاسِ

اذليل واضعيف أحاكم٠٠ لڭرون بڭره فالحاسِ

ومن يعرف الرجل حقا يعرف فيه إقباله على الله وتعبده ما يعبر عنه هذا الكاف بشكل دقيق، فقد كان مبادرا إلى الخيرات مبادرة من يتوقع بغتة الموت، رحمه الله وتقبل منه.

 

ومنه:

ريم الشَّحْ اعليهَ فوان٠٠لامتحان امغاول عجلان

خظت أشغلتنِ بالغيوان٠٠واتليت امعاهَ نتڭرحْ

ڭالتلِ تنجح يالمنان٠٠هح أصل آن لاهِ ننجح

فاهم وامحضر لامتحان٠٠أڭالتل ننجح ريم الشحْ

 

وله أيضا:

ذان عت انبات أنصبح٠٠ نرفد فالتخمام أنطرح

عت إمام الهَ ما نصلح ٠٠نقبض عت أنرفع ليدين

وانروغ السجود امجنح ٠٠وانروغ اتناظير الكرعين
ونبسمل عت ؤنستفتح٠٠ ؤنگرمــالك يوم الدين

أراج عند الحي القيوم ٠٠نرجع هك اللخيام إلين

افلمسيد انصل ماموم٠٠دارك فاهجيج الماموميين

 

ثم إن الرجل كان آية في العبادة والتبتل والزهد الصادق وعزة النفس، من غير تكبر ولا تعال، ولقد رأيته يطيل السجود في المساجد ويعنى بالصدقة، ويكرر العُمَر والحجات، وأحسبه من الصادقين المخبتين، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين.

هذا تبييض لأصل محاضرة ألقيت في ندوة للمنبر الثقافي الموريتاني في الدوحة فاتح يونيو 20024