على مدار الساعة

طائرة تجكجة المنكوبة: فاجع الذاكرة الجمعية الموريتانية 

3 يوليو, 2024 - 13:38
تكبر عبد السلام (وِدادْ) 

28 نوفمبر1983 دشنت حكومة اللجنة العسكرية للخلاص الوطني طائرة "فوكير إف 28 فلوشيب" هولندية التصنيع الحاملة للرقم التسلسلي 11092

لم يعلم المحتفلون يومها أنهم استقدموا تابوتا جماعيا سيقل بعد عشرين سنة من الخدمة الجوية فقط ما يقارب 100 راكب لحتفهم!!..

و لم يعلم الشاعر التاكانتي "الدي ولد آدبه" أنه يوم قدر له أن يتفجر شعرا ، تفجر و هو يرثي جمعا من أبناء ولايته قضوا بأكثر الطرق مأساوية، في رحلة كان المفترض أن تكون رحلة عودة لتكانت، لكنها كانت رحلة ما بعدها قفول كما يقول ولد آدبه: 

ﻟﻴْﺖَ ﺷِﻌْﺮِﻱ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﺤﺴﺐ ﻫﺬﻱ ﺭﺣْﻠﺔ ﺍﻟﻌُﻤْـﺮ .. ﻣﺎ ﻭﺭﺍﻫــﺎ ﻗﻔﻮﻝُ؟ 

 

صبيحة الأول من يوليو عام 1994 حلَّقت الرحلة رقم 625 من مطار نواكشوط متوجهة إلى مدينة تجكجة و وصلت وجهتها بُعَيْدَ الثامنة صباحا ، لكنه وصول من نوع آخر يصفه ولد آدبه: 

ﺣَﻠَّﻘـﻮﺍ .. ﻧﺤْﻮَ ﺃﻫْﻠﻬﻢْ .. ﺃﻟْﻒَ ﻣِﻴﻞٍ .. ﻭﺻَﻠﻮﺍ .. ﻓﺎﺑْﺘَﺪَﺍ ﺍﻟﻤَﺪَﻯ ﻳَﺴْﺘَﻄــﻴﻞُ ! 

شاهد سكان تجكجة يومها طائرة تحوم حول المطار لفترة من الزمن دون أن تنزل، و ماهي إلا برهة حتى دوى صوت انفجار هز الأرجاء كما هز القلوب.

كانت العاصفة الرملية قد حجبت الرؤية و جعلت قمرة القيادة في حالة تردد قبل اتخاذ قرار الهبوط، و الذي جاء حادا فتسبب في انهيار الهيكل السفلي الأمامي للطائرة لتنزلق مصطدمة بنتوء صخري فتتحطم و تلتهمها ألسنة النيران بمن فيها.  

ﺷَﺐَّ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺤَﺮﻳﻖُ .. ﻭﺍﻟﻜُﻞُّ ﻳَﺮْﻧُـﻮ .. ﻻ ﻣَﻄﺎﻓِﻲ .. ﺇﻻ ﺍﻟﺪُّﻣﻮﻉُ .. ﺍﻟﺴُّﻴﻮﻝُ ! 

 

و الصورة كما وصفها "ولد آدبه": لا سيارات إطفاء ولا فريق إنقاذ في المطار، فاختلط المشهد: أشلاء و دماء و دخان و نار ، و اشتبكت الأصوات: صرخات الضحايا  ربما و عويل بعض من جاؤوا يستبقلونهم من ذويهم فكانوا شاهدي عيان عاجزين على فاجعة الرحيل المؤلم.. 

ﻛـﻴْﻒ ﻟﻢْ ﺗُﺤْـﺮِﺯُﻭﺍ ﺩَﻗِﻴﻘـﺔَ ﺻَﻤْﺖٍ؟ ﺇﻥَّ ﻋـــﺎﻣـًﺎ .. ﻣِﻦَ ﺍﻟـﺤِﺪَﺍﺩِ .. ﻗـﻠﻴﻞُ ! 

 

تسائل "ولد آدبه"؛ إذ لا حداد رسميا أعلن رغم فداحة الحدث و هول الصدمة!، و يعود ليستفهم و يستغرب في آن ، فخبر الفاجعة انتشر و الإذاعة الوطنية مشغولة ببث برنامج ترفيهي:

ﻛـﻴْﻒ ﻧَﺒْﻜِﻲ .. ﺃﻓْـﻼﺫﻧﺎ .. ﺗَﺘـﻠـﻈَّـﻰ ﻭﺇﺫﺍﻋــﺎﺗُـﻨـﺎ : ﻏِـــﻨـﺎﺀٌ .. ﻃُــﺒﻮﻝُ ! 

 

عبَّر احتجاج "ولد آدبه" الأدبي في قصيدته الملحمية عن حالة استنكار لموقف الحكومة الموريتانية الذي حز في النفوس المكلومة يومها، ولا زال مستغربا بل و مستنكرا بشدة منذ الفاجعة و حتى الآن. 

لم يكن في حسبان الركاب صبيحة فاتح يوليو أن بياناتهم ستملأ سجل ضحايا أسوء حادث جوي لطائرة من طراز فوكير إف 28 فلوشيب، و أن اجتماعهم الذي كان من المفترض أن يقتصر على وقت الرحلة سيستحيل للأبدية ، حين يجمعهم ضريح جماعي تشكلت معالمه على جغرافيا أرض تجكجة المكلومة، في مطارها الذي أصبحت ساحته مسرحا لأحد أكثر الأحداث إيلاما في الذاكرة الجمعية الموريتانية . 

 

يستدرك "ولد آدبه" حقيقة أنه: 

ﻟـﻴﺲَ ﺑﻴْﻦ ﺍﻟﺤﻴـــﺎﺓ ﻭﺍﻟـﻤﻮﺕِ .. ﺇﻻ ﺣﺎﺟِﺰ - ﻋِﻨْـﺪَﻣﺎ ﻳـُـﺰﺍﺡُ – ﺿﺌــــﻴﻞُ ! 

 

و كذلك كان الحاجز بين ركاب طائرة تجكجة و الموت ضئيلا جدا: مجرد تذكرة سفر و مسافة 603 كلم كانت تفصلهم عن ملاقاة قدرهم المحتوم في رحلتهم الأخيرة، على أرض أبت إلا أن ترتوي بدماء أبنائها في مستهل موسم "الكيطنه"، فاستحال موسما تجني فيه تكانت كل عام مع عناقيد التمور عناقيد من وجع الذكرى الأليمة لشهداء المطار.