على مدار الساعة

وداعا عمير

4 يوليو, 2024 - 23:28
الكاتب إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا

سهرت وأنا مراهق في الثانوية على حوار إذاعي مساء الانتخابات الرئاسية سنة 1992 تخللته بعض النتائج الأولية؛ شارك في الحوار الكاتب الصحفي صاحب الأخلاق الدمثة والثقافة العالمة المأسوف عليه محمد فال ولد عمير وكان حينها رئيس تحرير إحدى أهم الصحف الحرة الناطقة بالفرنسية في البلد؛ ويمثل صوت المعارضة في ذات الحوار. 

 

  كان الموريتانيون حينها يتلمسون التعددية ويخشونها وقد يكونون مايزالون على تلك الحال. وردت لمدير الحوار الإذاعي مكالمات من مستمعين حانقين على نظام المخلوع معاوية؛ فاستشاط مدير إحدى الصحف الموالية وهو مايزال على قيد الحياة -أطال الله عمره- رادا على المستمعين بالقول إن مجرد امتلاكهم لهواتف ثابتة يدل على أنهم من فلول الأنظمة البائدة وأن آراءهم لاتمت للواقع بصلة. ثم عاد الميكروفون لولد عمير فلم يدعه المحاور يستطرد أفكاره؛ حينها نبهه ولد عمير بأنه مادام ملك الشجاعة على التصريح بأنه من الحزب الجمهوري PRDS فإنه -أي ولد عمير - لا يرى غضاضة في القول إنه ينتمي لحزب الليكود.

 

  مرت مياه تحت جسور الأزمنة وتقلبت رؤوس وصار ولد عمير موظفا ساميا لدى أنظمة أعقبت ولد الطائع؛ لكنه حافظ على هدوئه ورزانته واتزانه في إبداء رأيه والتعاطي مع مخالفيه وإيمانه بالحريات الدستورية.

 

  ملك حرفه الصقيل ولم يتملكه حرفه؛ حرر افتتاحيات كثيرة بلغة فرنسية باذخة ومحلقة؛ وعقل تحريري متبصر؛ خرج بسلام من مراحل رؤساء الدولة ورؤساء الجمهورية؛ لم يكن راضيا عما يحدث في المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية والمجلس الأعلى للدولة؛ كان الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي ووريثه عادل ثم الاتحاد من أجل الجمهورية ثم الإنصاف بالنسبة له مضامير لحظوظ النفس وتجزئة المجزء؛ كل شيء يحدث فيها إلا التناوب والاستقالة.   

 

  
    كان يحمل بين جنبيه عقلا راجحا وقلقا باديا على وطن تزاور مصائره بين ديمقراطية بلا ديمقراطيين وديمقراطيين بلا ديمقراطية؛ في إقليم يهتم الحكام فيه بالأجندا الانتخابية وطقوس الولاء أكثر من تكريس دولة القانون والتنمية الحقة.

 

  شكل مع الراحل حبيب ولد محفوظ وبعض أبناء جيلهما نواة صلبة للتجربة الصحفية الموريتانية. وحين قرر الساسة أن تكون الصحافة الموريتانية مضمارا للتشفي والابتزاز؛ وشارفت الورقية منها على الانمحاء؛ ظل هو هو؛ متواضعا حاضرا حاذقا.

 

  لقد كان إحدى أجمل ورود المذرذره الولادة التي رمتها إلى الساحل الأطلسي مبكرا؛ فرانكفوني الريشة موريتاني الوجدان.

 

  بغيابه تنطفئ إحدى آخر شموع البدايات لحرية التعبير في مرحلة مابعد التعددية بموريتانيا؛ شموع جيل من حظه أنه لم يعش زمن المواقع الألكترونية والمنصات والتدوين وأنه استقال سريعا من مقصلة التدجين الممنهج.

 

   ألبس الله ولد عمير أثواب الرضوان وعلى روحه السلام وإنا لله وإنا إليه راجعون.