رموز الدولة وثوابتها، وحتى حدودها، لا يستحيل تغييرها ولا يُستبعد تعديلها، ولكن بشروط صارمة لا لبس فيها: أولها الإجماع أو ما في حكمه من موافقة مؤكدة شاملةٍ، أو غالبةٍ مع سكوت البقية.
أما الشرط الثاني فهو أن يكون التغيير أو التعديل يجلب مصلحة محققة أو يدرأ مفسدة مُحدِقة.
وأما بقية الشروط فتتعلق بالاتفاق ـ بنفس القبول وانتفاء الاعتراض ـ على طرق ووسائل وأهداف التغيير أو التعديل.
فأين يا ترى من كل ذلك تغيير العلم والنشيد الوطنيين، مثلا؟!
بينما ذهب الشرطان الأولان في مهب الريح وغابا كلية، بحضور عكسيهما، فإن بقية الشروط جاءت أخطاء مضاعفة من السلطات المعنية:
فقد أخطأت السلطة حين لم تكلف لجنة فنية مختصة باقتراح العلم الجديد (الذي يعتبره البعض خطأ). ثم أخطأت ثانية حين شكلت لجنة أو "حزبا سياسيا" لاقتراح النشيد!
فها هي حمى العصبية والشرائحية تنتشر، ودعوات الطائفية والقبلية والجهوية تسري كالدم في العروق: لما ذا عَين هذا واستَبعد هذا، ولما ذا غابت هذه الشريحة أو أُوثرت تلك بالتمثيل في هذه اللجنة، ومن يخدم النشيد القادم... الخ، وذلك كله قبل أن يُخرج الشيطان رأسَه ويَسلَّ صارمه عند مناقشة التفاصيل؛ من قبيل: هذا البيت فيه محذور، وهذه الكلمة فيها محظور، وهذه العبارة ملغومة، يجب أن يُذكر الفلانيون، هؤلاء ظلموا... وهؤلاء أُقصوا... إلى آخر النشيد!!
إنها ببساطة خلافات جديدة ستضاف إلى الخلافات الأولى لتزيد رصيد المشهد تفريقا وتمزيقا ولهوا بالمخاطر... فيما لا طائل من ورائه أصلا!
إن المثل الشعبي يقول: "إذا انتثر الدقيق فلا يمكن استعادته كاملا"، ويقول المثل المصري: "الباب الذي تأتي منه الريح أغلقه تسترح"!
وبالإضافة إلى ذلك لا يماري أحد ـ اللهم إلا عمدة ازويرات! ـ في أن النشيد الحالي بألفاظه الفصيحة وشاعريته المحكمة ومعانيه القدسية، هو محل إجماع؛ إنها معان تمثل بالإجماع الكامل حولها قمةَ الوطنية! وإذا أراد أحدهم نقده أقصى ما يصل إليه أنه لا يثير حماسه. وهنا ينبجس النزاع؛ لا من كونه يثير حماس آخرين غيره، ولكن لأن البديل ـ مهما كان ـ لا يمكن أن يثير حماس الجميع!!
يصرح البعض بأن النشيد الوطني الجزائري يثير حماسه، والبعض يقول إن النشيد المغربي يثيره، والبعض يثيره نشيد مالي، والبعض لا يثير حماسه غير نشيد لبرازيل! فأي هذه "المحمسات" نتخذها نشيدا أو نبنيه على نمطها؟!
والحقيقة أن تجاوز رمزية الرموز الوطنية إلى مناقشة وتقرير معانيها وأشكالها وتعابيرها... مضلة وورطة، لأن ذلك سيروم جمع أذواق الناس وطرق تعبيرهم عن مشاعرهم وأهوائهم، وتلك غايات لا تدرك، ناهيك عن احتمال وجود المشاعر السلبية وما تثيره من شكوك وكوامن سيئة.
لهذا فإن تلك الرموز بعد وضعها الأول، تشبه الحدود الأصلية، الموروثة عن الاستعمار، بين الدول، وأحيانا بين أقاليم الدولة الواحدة. فالأسلم أن تُترك كما هي بغض النظر عن ما فيها من العيوب والظلم أحيانا... لأن تغييرها لن يكون محل اتفاق والأغلب أنه سيكون محل أضرار وحروب...!
أخيرا، للذكرى (وتنفع المؤمنين) هناك طريقة أخرى لتغيير الرموز الوطنية، لا تحتاج نقاشا كبيرا ولا لجانا تثير الجدل؛ هي طريقة الطغاة! مثلا: طريقة القذافي وطريقة موبوتو... فقد غيرا رموز وأسماء بلديهما وحاولا تغيير التاريخ والحياة نفسها... ولكن عواقب ذلك كانت وخيمة على بلديهما، بل ونفسيهما. كما بطلت بذهابهما تلك التغييرات ونُبِذت بأثرهما مباشرة...
سلم الله بلادنا وحفظها ووقاها شر الطغاة والغلاة...