دخل البلد منذ أسبوعين عنق الزجاجة بعد اكتمال عملية الاستفتاء سيء الصيت التي وضعته في إجازة قسرية طيلة عشرين يوما، والتي أثارت نتائجها الوجوم.
لقد كانت عملية بالغة القهر، صوّت فيها - لأول مرة - الأموات، وانسلخت فيها الدولة من كل تعهداتها بالحياد، وعادت التطلعات والنضالات أدراجها لنقف مجددا على عتبة سنة 1992؛ فلم يعد ينقصنا سوى الصناديق المتنقلة لتكتمل صورة البداية.
لقد شاهد الجميع الفخر بالديمقراطية والأمل بالاستقرار يقتلان على رؤوس الأشهاد. ولم يكن العيد سوى تنقيح عقيدة عزيز العسكرية للمرة الثالثة، ومحاولة مدنية لترميم طموحه نحو الانقلاب. لم يستند الاستفتاء إلى مبنى قانوني، بل لم يكن دستوريا على الإطلاق. وقد تم إدخال المادة: 38 عنوة في هذا المسار الذي سجل انعطافا خطيرا في تاريخ البلد، بعدما أسقط الشيوخ المسار الصحيح للتعديلات الدستورية حيث كادت ديمقراطيتنا أن تصير وظيفية ومحل فخر. لكن "الرئيس" - بإلهام من مقربيه - أخذته العزة بالغرور، وأعلنها حربا هيستيرية على الشيوخ، أحرقت الأخضر واليابس في ديمقراطيتنا وجعلتها من دون بريق ولا مستقبل. ليس عزيز سوى عسكري طليق اليد، وجد صلاحيات هائلة في نظام رئاسي وفي أرض جرداء من المعاونين النصوحين عن جهل أو عن خوف.
إننا نشاهد أخطاء قاتلة تتكرر من وحي تلك الوضعية، وننتظر نهاية ليست بالضرورة كما يريد عزيز ولا كما يريد الوطن: أي نهاية غير طبيعية لحكمه. لقد أخذت المؤشرات في الانحدار، وبدأ سعد الطالع في الهبوط بداية بالعصيان السياسي بشق الصف الداخلي الذي دشنه الشيوخ وما تبع ذلك من لكمات سياسية مؤثرة. وفي الجهة الأخرى من الصورة، تراجعت أسعار المواد الأولية، وأخذت الأوضاع تسوق الحالة نحو التأزم والمعارضة نحو التوحد وهي تزهو بلقبها المستحق (المعارضة الوطنية)، وهي تقارع نظاما يقوم بأعمال غير وطنية، كما بدأ المجتمع يفقد خصلة التكافل الرحيمة التي ظلت تحمي الضعفاء من الضياع وتحفظ للنظام شعبيته عادة بسبب التسيير الأهوج للموارد. وقد أمسى الشعور بغلواء الأسعار طافحا بتأثير من تقلص الإنفاق الحكومي وغياب المساواة أمام فرص إعادة توزيع الثروة الوطنية وانكماش مناخ الأعمال وضعف الدخل وضعف مزايا التسيير، والوظائف السامية.
إن تفشي قطاع المعارضة الشعبية في صفوف شعبية النظام، بسبب الفقر المدقع وزيادة الطبقات الرثة والشوارع الحقيرة التي خلقتها أحياء الترحيل والبؤس وتزايد حجم البطالة وتنوع الجريمة، يدعم بصفة ملموسة حتمية التغيير، ولو تغيير الأسلوب الذي لا يريد النظام الانصياع له. ولن يكون العمال، الذين يشكون من قساوة العيش وضعف القوة الشرائية: أي صعوبة مقاومة الفجوة الهائلة بين الرواتب الجامدة وأسعار المواد الاستهلاكية دينامية الصعود، أكثر الناس خلودا للهدوء عندما تلملم كل الأوضاع أوراقها في البحث عن التغيير أو التحسين. لم تكشف الدولة عن أي خطة لمواجهة هذه الوضعية، بل على العكس صارت مجبرة على ابتلاع وصفات البنك الدولي المميتة في السر وهي تأتي بتعقيدات جديدة للوضع. إنها وضعية تكوي غالبية المجتمع، ولم تعد تطاق ولا يملك عزيز حقائقها ولا تصورا عن ما يجب عمله بالضبط، خاصة أن مقربيه الماليين لا يهدونه سوى على وقف جميع أنواع الإنفاق من أجل الحفاظ على شعار "محاربة الفساد" الذي هو في حقيقة الأمر حق أريد به باطل، وزيادة الضرائب التي صارت قياسية على المواد الغذائية.. ليس المعاونان الرئيسيان في الحكومة إلا أعباء ثقيلة على النظام بسبب الشطط الذي يثيرانه سياسيا واقتصاديا والدعايات الكاذبة والأرقام التي تسعى لتصوير حالة تحسن لا يحس بها أحد، ويحاول أحدهم أن يكون مفوها من أجل تزيين الخراب، لكنه كثيرا ما واجه الإحراج. وهكذا يكون الوقت - من الناحية الواقعية - قد أخذ يضيق على اجتراح حلول موضوعية، وكذلك على بناء رجل قش، فالرسالة التي حملها الاستفتاء لا لبس فيها وتنبئ بأن الشعب لم يعد مقتنعا بهذا الخطاب ولا بهذا الأداء. فالنظام مطالب بأفعال على الأرض، وعكسا لذلك يدور الحديث حول مسؤولية عزيز المباشرة عن كل ما يدور في البلد وعن قوته الشخصية المسخرة للثراء الشخصي، فلا تطلع شمس دون الحديث عن ثراء عزيز بواسطة الاستيلاء على الأملاك العمومية التي شكلت جانبا مهما من ثروته التي جمعها بواسطة منصب الرئيس، في حين أن الناس تتضور جوعا في الولايات الزراعية وفي العاصمة الاقتصادية، تماما مثل تشاوسيسكو قبل ثورة الشعب الروماني عليه ديسمبر 1989 حيث كانت الكهرباء تنقطع بصفة منتظمة ساعات عن بعض أحياء العاصمة بوخارست في حين كان هو يزين صالة قصره بثريا تحمل 4000 شمعة. إن عزيز يقف على مسافة بعيدة من المطلوب الذي هو في العاجل تخفيف وطأة الحياة على الناس، وإعادة الروح لجو المنافسة: أي الكف عن تسمين جماعة بعينها وزيادة الرواتب ومقاومة جنون الأسعار. نحن اليوم نلاحظ هيمنة نفس الأشخاص المرتبطين بعزيز على مناخ الأعمال في البلد والسيطرة المحكمة على الفعل الاقتصادي، وكأننا نتذكر تونس قبل 2010 عندما فهم زين العابدين شعبه متأخرا أو لم يفهمه على الإطلاق مثل حسن مبارك. لقد ذكر آلا نتن من مركز السياسات الدولية الفرنسي في موضوع عن موريتانيا "أن مرشح الفقراء أصبحت صورته اليوم بالنسبة لجانب هام من الرأي العام الموريتاني هي صورة رئيس يكدس المال شخصيا ويغني أصدقاءه وقبيلته عبر وسيلتين هما نظام معين لإعطاء الصفقات العمومية وآلية على الاستحواذ على عائدات المناجم". وأن "صورة الرئيس المعصرن لدولة تسجل نموا قويا بسبب الصناعات الاستخراجية الاقتصادية - حسب لموند ديبلوماتيك - إثر فتح وزارة العدل وهيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكيتين تحقيقا حول ممارسة شركة تازيازيت المحدودة، أن تلك الصورة كان يحجبها ارتفاع أسعار المواد المعدنية وقد أصبحت اليوم مكشوفة بفعل تراجع نفس الأسعار".
إن "قائدنا " يواجه مشكلة عميقة هي أن مخزونه من القوة ومن الشعارات القابلة للهب مشاعر الضعفاء قد نفذ، وأنه كل ما تأخر في فهم مشكلته كلما كان الوضع أصعب بالنسبة لمستقبله في البلد، وأنه كلما جعل الثقة تتقلص في أجهزة وأدوات العملية الديمقراطية كلما تقلصت فرص الحلول الطبيعية وكلما ضاقت مساحة الخيارات أمامه في الخروج من السلطة بأقل الخسائر بالنسبة له وللبلد. إن عليه أن لا ينسى أنه على توتر مع 3 من أصل أربع دول متاخمة له، ولا يملك دعائم في علاقته بالقوى الغربية على الأقل ليست من صنع دبلوماسيته إن وجدت بصفة استثنائية. فقد أنقذت فرنسا الرئيس التونسي وأمريكا الرئيس المصري وروسيا الرئيس السوري، ولا يمكننا أن نخمن أي دور له يجعل أي قوة غربية تتدخل لمصلحته الشخصية. ومن هنا لا يكون أمام عزيز -عكسا لنظرائه - سوى خيار وحيد هو الخيار المحلي.