على مدار الساعة

أحاديث البسطاء

30 يوليو, 2024 - 02:23
بقلم بابه ولد يعقوب ولد أربيه

لف الأصيل عباءته حول الكثبان الرملية شمال نواكشوط، فتلونت بلون الذهب بينما احمَرّتْ وجنتا حفرة الجمر الصغيرة خجلا من قبلات الرياح، وآن أوان شاي الذهبي .
 

ناولني صاحبي كأس شايه الأول مرفقا بسؤال عن الحكومة الجديدة!

لي ولصاحبي من الأمور العالقة والتحديات اليومية ما يجعل السؤال عن التشكيلة الوزارية في نواكشوط عاشر الهموم! ولكن اهتمام البدو بالسياسة قديم قِدَمَ اهتمام بدو سواد العراق بما يجري في الحيرة والمدائن من أمر المناذرة والأكاسرة واهتمام قبائل أطراف بادية الشام بما يجرى في بُصرى والقسطنطينية من أمر الغساسنة والرومان.

ألحت علي إجابات في منتهى البساطة تفسر علاقتنا بالدولة المركزية حديثة العهد في هذه الربوع لكنني لم أجرؤ على قولها أمام صديقي الذي يعتبرني مثقفا! ولكي لا أخيب ظن الصديق حسن الظن امتطيت جواد التنظير قائلا إن الحكومات غالبا ما تتشكل وفقا لظروف بلادها فالبلد الذي يعيش أزمة اقتصادية يُعهد فيه بتشكيل الحكومة إلى شخص ذي خلفية اقتصادية، وحبذا لو كانت له صولات وجولات في أروقة المنظمات الدولية، بينما في حالات الأزمات السياسية يتم تعين سياسي توافقي له دراية بخريطة حقل الألغام السياسية، وفي حالات الحرب والتهديدات الأمنية لا قدر الله يتولى رئاسة الحكومة أهل الميدان، وفي الأوقات العادية يتولى الحكومة تكنوقراط له رؤية واضحة في البناء والإعمار.

تماديت في تنظيري متحدثا عن بريطانيا التي اختارت اتشرشل في زمن الحرب لأنه رجل حرب، وبعد النصر سلمت مفاتيح المكتب رقم: 10 في داوننغ ستريت لرئيس حكومة آخر لأنها رأت فيه رجل بناء.

قال لي صاحبي وهو يمد يده طالبا الكأس الفارغة:" ما ينطبق على دول العالم الأخرى لا ينطبق حتما علينا، فلنا دراعتنا الخاصة التي فصلناها بتجاربنا وخصوصياتنا وتقاليدنا على مقاسنا".

ثم ذكر صديقي مقولة نسبها لبعض علماء الاجتماع ربما للبروفسور عبد الودود ولد الشيخ مفادها أن قواعد علم الاجتماع لا تنطبق على موريتانيا !
 

واصلت إنصاتي وواصل معد الشاي تدعيم حجته قائلا إن الرئيس الأسبق المختار ولد داداه قد فهم جيدا أن التعددية الحزبية تمرين متقدم على عقولنا التي تعتبر أي تنافس بمثابة إعلان حرب، لذا سلك مسلك حزب الشعب الذي كان قبة تظل الجميع !
 

قاطعت صديقي فقلت "ولكن" ثم عدت لصمتي إلا أنه ألح علي بأن أشرح ما أعنيه بـ"ولكن" فأجبته: "حين احتوى الرئيس المختار شباب الكادحين وأجلسهم مع خصوم الأمس في مؤتمرات الحزب الواحد، انتشى بنصره الداخلي لدرجة لم يفكر خلالها في الخطوة القادمة على الأقل بذات الدهاء الذى وحد به الصف الداخلي، فكان قرار حرب الصحراء".

 

ناولني صاحبي كأس الشاي الثانية مقاطعا وسائلا: "هل تقصد أن الرئيس غزواني حين احتوى المعارضة الكلاسيكية كان في ذهنه سيناريو لنسخة متطورة من حزب الشعب؟".

 

أجبت محاوري في جلسة الشاي بأني لا أعرف بالضبط نوايا الرئيس، ولكني أخشى أن يكون تفكيك المعارضة الكلاسيكية قد أدى إلى ظهور معارضة أكثر حدة أو على الأقل معارضة لا تعترف بانتخابات ربما كانت أكثر مصداقية من انتخابات سابقة اعترفت بها المعارضة الكلاسيكية التي طالما رفضت النزول إلى الشارع الذي ما فتئت المعارضة الجديدة تهدد به!.

قاطعني صديقي مجددا فقال: هل تقصد أن وجود التعددية والترخيص لكافة أحزاب المعارضة أكثر أمانا من الاتجاه نحو سياسة الحزب الواحد؟ "

هذه المرة لم أكلفه عناء مد يده طلبا للكأس فناولته إياها مجيبا على سؤاله بقولي: "ربما "
تقريبا أصبحت كأس الشاي الأخيرة جاهزة، ونحن لم نجب على السؤال الأول بشكل مباشر، عندها تداركت ذاك الاستطراد غير المنهجي الذي وقعنا فيه وقلت مخاطبا صديقي: "أستطيع أن أقول لك بشكل آمن إن التشكيلة الوزارية ستكون عنوانا للمأمورية القادمة، فإذا كانت محاربة الفساد جادة سيتم تعيين رجل نزيه له دراية بملفات الفساد، ربما من المفتشية العامة  للدولة، وإذا كانت المأمورية حقا للشباب فستعطى وزارات هامة للشباب مع أني لست من أنصار إعطاء الوزارات السيادية لعديمي الخبرة، ففي الظروف الراهنة وما يجري على الحدود المالية أرى أن تعطى حقائب الداخلية والدفاع والخارجية والعدل لمن يملكون خبرة ودراية بالملفات الراهنة، حتى وإن لزم الأمر إبقاء الحقائب في أيدي أصحابها السابقين".

كما أرى ورأيي صواب يحتمل الخطأ أن وزارات فنية مثل التجهيز والنقل، والمياه والصرف الصحي، والصحة، والتعليم، لا يمكن أن ينجح فيها إلا وزير من داخلها عارف بما يجري في دهاليزها ومكاتبها المغلقة وأقراصها المدمجة.

أكثر الوظائف الوزارية أحقية بالشباب منصب الناطق الرسمي باسم الحكومة وهي حسب رأيي وظيفة لا تحتاج خبرة بقدر ما تحتاج تكوينا جامعيا وقدرات خطابية ولغوية والناطق الرسمي يمكن أن يكون وزيرا للشباب والرياضة أو وزيرا للثقافة أو وزيرا للعمل، أما وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فلن يفهم ترتيب أولوياتها إلا أكاديمي وباحث سبق له أن درس بالجامعة".

ناولني معد الشاي الكأس الثالثة سائلا: "ماذا عن الجهوية والقبلية؟؟"
 

عندها أجبت بأن علاقة الدولة والقبيلة مثل شعرة معاوية إن ضعفت الدولة استقوت القبيلة وطالبت بالمزيد من الكعك، وإن قويت الدولة رضيت القبيلة بنصيبها، بل إن بعض القبائل ستعتبر بعضا من غير أبنائها ممثلا لها.

 

ثم أقبل المساء المؤدب يشرب قهوته السوداء على مهل فوضعنا مواعين شاينا على عجل في صندوق السيارة وعدنا إلى نواكشوط التي تعيش ترقبا غير مبرر لإعلان التشكيلة الوزارية