على مدار الساعة

ما العمل؟ (2)

3 أغسطس, 2024 - 01:58
بقلم: د. معمر محمد سالم - محام لدى المحاكم

تشهد موريتانيا منذ 2008 انقساما سياسيا حادا، ترتفع فيه وتيرة الصراع وتخبو من حين لآخر، وبذا يحقق الحوار جوهر الديمقراطية الذي هو إدارة الاختلاف، لكن يبدو أن الاختلاف عندنا لا تحده ثوابت مبدئية، فأغلب النَخب عبر العالم تتفق على الثوابت، لكنها تختلف على ما سواها.

 

تاريخيا انطبعت علاقات القوى السياسية في البلاد بالتشنج والمغالبة، ولذلك كانت عقيدة الاشتباك السياسي قائمة على المعادلة الصفرية، أي الربح المطلق أو الخسارة المطلقة، فتجاهل المغلوب إمكانية تحويل الخسارة إلى انتصار جزئي، وتغافل المنتصر عن مخاطر تحول الانتصار إلى خسارة في حالة عدم ترشيد مكاسب النَصر.

 

إبان التحضير لحرب الصحراء عقد كبار أطر حزب الشعب اجتماعا للتعبئة الحزبية والجماهيرية، ترأسه بارو عبد الله وحضره الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل - الذي كان يومها مديرا للصياغة في الحزب – والسيدة مريم داداه.

 

عبّر الأستاذ محمد يحظيه عن رفضه القاطع للحرب، لإيمانه بأن الوحدة لا يمكن أن تكون قسرية، ولحرصه على أن يظل موقف موريتانيا من الشقيقتين المغرب والجزائر متوازنا، لكن مريم داداه هاجمت الجزائر معتبرة أنها مجرد " شم " يمكن أن تضعه فرنسا في أنفها، فرد الأستاذ - بهدوئه المعهود - إن دقيق الشَم ذاك على سهولة وضعه في الأنف، من شأنه أن يجعل فرنسا تعطس مرارا دون توقف..

 

وبقيَاس الوضع محليا، فإن ضعف المعارضة في مواجهة النظام لا يمنعها من أن تسبب له عطاسا لا يساعد في الشروع في معركة شرعية الإنجاز بعد حسم استحقاق الشرعية الانتخابية.

 

محطات الحوار السياسي في موريتانيا

مثلت تجربة الحزب الواحد وفاقا قسريا، حين أُجبرت القُوى السياسية على الاندماج داخل حزب الشعب، فقُضي على التعددية التي هي روح الديمقراطية.

 

حيث نص دستور 1961 المهيئ للاندماج على أن: "الإرادة الشعبية تبرز عن طريق حزب الشعب.. وهو حزب الدولة الموريتانية الوحيد".

 

وبعد انقلاب العاشر من يوليو 1978 لم يكن الحوار بين الأنظمة والقوى السياسية مطروحا، لأن الحوار يقتضي مبدئيا الاعتراف بالطرف الآخر، ولم تكن هذه الأنظمة العسكرية تعترف بالكيانات السياسية الأخرى، ولذلك كان قرار نظام معاوية الدخول في المسار الديمقراطي أحاديا، لم يسبقه حوار سياسي.

 

ولم يصل نظام معاوية إلى إمكانية الدخول في حوار مع المعارضة، إلا بعد المحاولة الانقلابية التي تمت في السادس من يونيو 2003، ولم تكن هذه الدعوة للحوار إلا مهدئا لتخفيف الاحتقان الذي شهدته الساحة السياسية حينها.

 

لكن هذه الدعوة للحوار لم توقف حالة الغليان، التي قادت لانقلاب الثالث من أغسطس 2005، الذي في أعقابه نظَم المجلس العسكري ملتقى (الأيام التشاورية)، واتجهت القوى السياسية إليه بنهم بلغ حد السذاجة، بيد أن مكاسبه الديمقراطية كانت هزيلة، ولم يستطع تدعيم المؤسسات، وهو ما أدى إلى انقلاب ثان سنة 2008، دخلت البلاد على إثره أزمة سياسية بلغت حد التدويل، فكُشف عمق البلد للمتدخل الخارجي، مع ذلك فقد رسم اتفاق "داكار" نهاية سعيدة للأزمة، التزم النظام بمدخلاتها التي أوصلته للشرعية وأعرض صفحا عن ملحقات الاتفاق.

 

وقد مثَل عام 2011 ذروة ما سمي (الربيع العربي)، فلم يكن للموريتانيين سبيل غير الاختيار بين الاحتكام للحوار أو النزول للشارع.

 

فاختارت بعض أحزاب المعارضة غير الراديكالية الخيار الأول وقاطعته البقية، وبالمحصلة كان حوارا طموحا، لكن يد التطبيق بُسطت قليلا وغُلت أحايين كثيرة.

 

حاول النظام العودة للحوار بقرار أحادي من خلال ما عرف "بالأيام التشاورية" المنظمة من 7 إلى 14 سبتمبر2015، فقاطعته أحزاب المعارضة، وتداعت له أحزاب الأغلبية، فغدا المشهد أقرب للأبناء الذين يحلفون الأيمان الغلاظ: تا الله إن أبانا هذا لأمرؤ صالح!

 

يمثَل الحوار السياسي والمجتمعي العميق مطلبا شرودا، كلَما حسبنا أننا أمسكنا به، تحول إلى سراب، ويعود ذلك إلى أحد أمرين، فإما أن قوى المعارضة لا تتحرك في الوقت المناسب، أو أن النظام لا يهيئ فرصا جادة للحوار.

 

يقول: الفيلسوف الصيني سون تزو، صاحب كتاب فن الحرب "إن التحرك المناسب يكون لحظة الفرصة المناسبة". وبالتالي فإذا فُقد أحد الشرطين تعذر التغلب على حالة الانقسام والتجاذب.

 

لنستمع لبعضنا

إن التحديات الاستراتيجية لموريتانيا تهمس في آذان العقلاء بأن علينا أن ننصت لبعضنا مهما كانت الظروف، فلو استقبل أطراف الصراع في السودان من أمرهم ما استدبروا، لما قَطعوا حبال الود، التي تستعصي إعادتها الآن على كل الوسطاء.

 

ذلك أن انهيار تحالف دول الساحل، وعودة نشاط الجماعات القتالية، وتحديات أطماع الغاز المنتظر، والهجرة الجماعية، تدعو جميعها لتجاوز الخلافات، فلا تمكن مجابهة الأخطار الخارجية بجبهة مهلهلة.

 

تاريخيا كانت كل الغزوات التي نتعرض لها مرتبطة بأطماع لها علاقة بالبحر أو النهر، استقرارا أو عبورا، ففي سنة 1443 م أسس البرتغاليون حصن "آركين"، الذي كثفوا عبره هجماتهم على السكان المحليين، حتى ولَينا ظهورنا للبحر إلى غاية اليوم، وتفطَر قلب محمد ولد السالك - الملقب "باي بيخ" - كمدا وهو يدعو الأطفال لمداعبة الموج كمداعبتهم للخراف، دون جدوى!

 

بينما دخل المحتلون الفرنسيون إلينا عن طريق النهر، يتنكرون في أزياء الباحثين والصالحين والتجار.

 

وحدهم القتاليون اجتازوا حدَنا الصحراوي، مما شكَل انقلابا تاريخيا لمعادلة التأثير بين الشمال والجنوب، فدين الرحمة، الذي أوصله المرابطون لإفريقيا يعود إلى أرضهم في صورة قطع الرؤوس والأطراف.

 

أما جارتنا المغمورة جزر الرأس الأخضر "Cap Vert" التي لا يتذكر الكثير منا أن لدينا حدودا بحرية معها، فلم تكن مصدرا للتحديات الاستراتيجية التي تواجهنا، لأن الخطر كان مصدره الغرب، وكنا نحن نمثل خاصرتهم الرخوة، فقد أبحر إليهم جحافل المحتلين البرتغاليين من حدودنا البرية عام 1444 م.

 

التنمية العاجلة

لم يعد لدينا وقت لنضيَعه في منح فرص للفساد الذي نخر جسم البلد عقودا من الزمن، بل تجب محاربته بشكل صارم، فالتنمية المستعجلة هي التي ستُعيدُ التوازن الطبقي، قبل أن يأكل الفقراء الأغنياء على إيقاع سنفونية التجييش اللوني والمناطقي والقبلي.

 

يقال إن أحد الفقراء الثوريين مرَ على قصر أحد الملوك وكتب على جداره "اللهم دمر هذا القصر وأهله" تعقَبه الجنود وأحضروه، فمثل أمام الملك، فقال له: ما حملك على كتابة ما كتبت؟ فأجاب: «إنني يا جلالة الملك، فقير أبيت الطوى خلف هذا القصر المليء بالذهب والجواهر، فطلبت الله أن يدمَره، لعله يطير منه مسمار ذهب واحد، فيسقط في بيتي فأقتات منه".

 

إن ربط المواطنين بالبلد لا يقتصر على مجرد منحهم رقم وطنيا وبطاقات تعريف، بل بخلق فرص العمل والضمان الاجتماعي والصحي، التي تمنح الأمان، الأمان الذي سيساهم في عودة بعض من الذين ركبوا المخاطر بحثا عن فرص عمل، فكما يقول نجيب محفوظ "وطن المرء ليس مكان ولادته، لكنه المكان الذي تنتهي فيه جميع محاولاته للهروب".

 

سياسة الأحلاف كانت مدمَرة للإدارة، فقد أغرقت المرافق العمومية بالكثير من عديمي الكفاءة لتعزيز حضور الأقطاب المحلية على حساب الإنتاجية، فضاعت الخدمة العمومية في سبيل استحقاق فردي أو مناطقي.

 

يقول محمد الماغوط إن الأنظمة الديكتاتورية خلقت فرزا بين المواطن والحزبي وكذلك نحن خلقنا فرزا بين المواطن والصاحب بالجنب في الحلف المحلي!

 

إذا لم تتسارع التنمية في مواجهة النمو الديمغرافي، فربما تصبح أحزمة الفقر هي عواصم الولايات الكبرى بسبب اختلال ميزان النمو الديمغرافي والاقتصادي.

 

أعتقد أن الكثيرين لا يتصورون أن مدينة الزويرات العمالية ذات الكثافة السكانية الكبيرة كانت مجرد منجم تابع لمقاطعة افديرك!

 

والعاصمة الاقتصادية كانت مجرد ميناء سَميُ صياد اسمه "Etienne" فأصبحت المدينة تسمى "Etienne Port" ثم بلدية تابعة لمقاطعة أطار!

 

لكن الإصلاح الإداري سنة 1968 جعل من الزويرات عاصمة لولاية تيرس زمور وتم تأميم اسم العاصمة الاقتصادية، فأصبحت تسمى نواذيبو، وربما تصبح "انبيكت لحواش" عاصمة الحوض الشرقي والسبخة لوحدها ولاية نواكشوط الغربية.

 

الفقر والبطالة وغلاء الأسعار يشكَلون مَصعدا دائما لتغيير الأنظمة، لذلك كانت التجربة الملكية في المغرب فعَالة أيام ما سمي الربيع العربي، حين أسندت الوزارات الخدمية للمعارضة فأصبحوا في مواجهة الأفواه الجائعة، ولم تعد لعنات الحرمان موجَهة للملك، بل للحكومة، وبذلك أزاح الملك عن كاهله عبئا ثقيلا،

 

وربما استخدم العقل المغربي الرصين فكرة التنزيه التي قال بها المعتزلة لانتزاع مزيد من المكاسب على حساب الملكية، فالمقام العالي للملك لا يمكن أن ينسب له انقطاع خدمة الماء أو الكهرباء أو المواصلات أو الأمن الغذائي..

 

وفي نفس الوقت أتيحت للبلد فرصة التَنافس في الإنجاز بين التكنوقراط والسياسيين ووزراء المخزن، وهو ما يفرض على كل فريق أن يقَدَم أجود كفاءاته، فتزاحم الأفكار الجديدة المختلفة خلَاق بطبيعته، خصوصا حين يرافقه انفتاح سياسي يفضي إلى الموافقة على تشريع جميع طلبات ترخيص الأحزاب السياسية، فالشرعية هي الأداة الفعَالة لترويض القوى السياسية.

 

بعد انقلاب أغسطس 2005 احتدم النقاش حول الترخيص لحزب يتبنى المرجعية الإسلامية، فكان أغلب المجانين يعتبرون تشريع الحزب يعد احتكارا للدين، بينما كان الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل وقليل من العقلاء، يرون أن التشريع أولى، فسينزل الإسلاميين من جنة المقدس الملفَع بمظلومية عدم الترخيص إلى صعيد المدنَس، المليء بإكراهات الواقع.

 

وقد أثبتت تجربة حزب تواصل بعد ذلك أنه حزب سياسي، لا يدَعي الطهرية في فسيح اللا مقدس، ويجيد قواعد العمل السياسي، القائم على الفصل بين اللاهوت والناسوت.

 

في سبعينيات القرن الماضي، حين آنس الراحل المختار ولد داده معارضة قويَة في صفوف الشباب، قلب حكومته رأسا على عقب وأزاح كل الذين لا يشفع لهم سوى التمثيل الجهوي، وأمَن حكمه بأفضل الكفاءات في البلد حينها، ولم يلزمهم بالانتساب لحزب الشعب، فبدون مصداقية حكومية لا يستطيع الرئيس اتخاذ قرارات جريئة كمحاربة الفساد.

 

لأن تلك الحرب شرط كسبها ألا يخوضها المفسدون ضد أنفسهم، فإن كانوا في مَيمَنتها فسيكون وضعهم فيها شبيه بجهاد المنافقين!

 

الحكومة المرتقبة كالكتاب يقرأ من عنوانه، فمصداقيتها هي التي ستمنح المواطنين "جرعة الأمل" - على حد تعبير باراك أوباما في كتابه الشهير - التي هي العنصر المعنوي لانتظارات شرعية الإنجاز، قبل توافر العنصر المادي، المتمثل في التجسيد الواقعي.